ستكون معركة محافظة إدلب والشمال السوري نقطة تحول مفصلية في المستقبل السياسي، ليس للجمهورية السورية فحسب وإنما لمنطقة الهلال الخصيب برمتها. إذ أن المواجهات العسكرية الأساسية على كامل الجغرافية الشامية قد حُسمت بشكل أو بآخر، ولم يبق إلا جيوب هنا وهناك يجري التعامل معها بالقتال أو بالمصالحات المحلية أو بتفاهمات "خفض التصعيد" وفق اتفاقات الآستانة برعاية روسية ـ إيرانية ـ تركية. كذلك تم القضاء، نسبياً، على إرهابيي "داعش" في دير الزور والرقة والموصل، في حين تعززت سيطرة إرهابيي "النصرة" في إدلب والمناطق المجاورة لها.
وإلى جانب القوى المسلحة المحلية المنتشرة في الشمال السوري، أصبح واضحاً أن الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في سوريا باتت تنظر إلى المعركة الكبرى في إدلب بوصفها الفرصة الأخيرة المتاحة لتحقيق مطامعها وطموحاتها على حساب وحدة الشعب السوري وسيادة الدولة على أراضيها، وذلك قبل الانتقال المتوقع إلى العملية السياسية سواء في مؤتمرات جنيف أو اجتماعات سوتشي. وليست الحشود العسكرية التركية على امتداد الحدود الدولية قرب عفرين، ثم إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن تشكيل "جيش للمعارضة" مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل ينتشرون في المنطقة نفسها وفي أنحاء أخرى من شرقي الفرات، سوى بعض الجوانب المعلنة لما يُخطط لمستقبل سوريا.
وتترافق مواجهات إدلب، التي بدأنا نشهد تباشيرها حول مطار أبو الظهور العسكري، مع مجموعة من التحركات الإقليمية التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها غير متعلقة بمعركة الحسم في الشمال السوري. ونذكر منها على سبيل المثال: التصعيد الأميركي ضد إيران، التوتر في العلاقات الأميركية ـ التركية، إعادة خلط أوراق التحالفات في العراق، شحنات السلاح المتطور التي أرسلتها أطراف خليجية إلى بعض جماعات المعارضة المسلحة في إدلب، الاستهداف المباشر للقواعد العسكرية الروسية في حميميم، زيادة الغارات الجوية الصهيونية على مواقع داخل الأراضي السورية... وعلى الرغم من تشابك معظم هذه التطورات وتقاطعها عند المصالح الحيوية لكل لاعب إقليمي ودولي، فإن ما تقوم به تركيا في الشمال السوري يشكل الخطر المصيري الأكبر على مستقبل الهلال الخصيب.
تختلف تركيا عن بقية الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة في الأزمة السورية بمسألة حيوية للغاية: إن أطماع أنقرة في الشمال السوري (وإلى حد ما في الشمال العراقي) هي أطماع تاريخية وموثقة وتعتبر من الثوابت الإستراتيجية للقيادات التركية المتعاقبة، القومي منها أو العَلماني أو الإسلامي. ونحن لا نقصد هنا فقط كيليكيا وأنطاكيا والإسكندرون التي سُلبت في ثلاثينات القرن الماضي بالتواطؤ مع الاستعمار الفرنسي، بل أيضاً مناطق تمتد من حلب حتى اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط.
قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1938، نجحت أنقرة في استغلال قلق فرنسا من احتمال تحالف تركيا مع ألمانيا النازية. فكانت نتيجة الصفقة ضياع "اللواء السليب". ولم تكتفِ القيادات التركية بذلك، بل سعت أثناء الحرب إلى الاستفادة من حاجة النازيين إلى طرقات آمنة للوصول إلى مناطق الانتداب الفرنسي في سوريا خصوصاً عندما سيطرت قوات "فيشي" الفرنسية الموالية لألمانيا على الكيانين اللبناني والسوري. وتكشف الوثائق الألمانية الرسمية سنة 1941 عن محاولات تركيا الدؤوبة لإقامة موطئ قدم لها في الشمال السوري بالتفاهم مع النازيين.
جاء في تقرير وضعته الإدارة السياسية بوزارة الخارجية الألمانية في برلين بتاريخ 7 آذار 1941: "لقد تحدث السفير فون بابن مراراً مؤيداً إجراء مناقشات مع الأتراك حول القضايا العربية. ومن أجل الأهداف العملية هذه يعني أنه ـ من بين أشياء أخرى ـ يمكن إعطاء الوعد لتركيا بقسم من سوريا بشروط معينة".
وفي تقرير أعده السفير الألماني في أنقرة بتاريخ 4 تموز 1941: "... وبالإضافة إلى ذلك ناقشني السيد سراج أوغلو (وزير الخارجية التركي) بوضوح كبير كيف يكون من الممكن تلبية المطالب التركية المعروفة لدينا (جعل سكة حديد بغداد آمنة) من دون إيذاء المصالح الفرنسية. وذكر أن الفرنسيين إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بمركزهم في سوريا، كما كان متوقعاً، فقد يجدون من الملائم أن يجعلوا الأتراك أوصياء على سوريا. وفي مثل هذه الحالة ستكون تركيا مستعدة فوراً لاحتلال سوريا، وأن تؤمن للجيش الفرنسي خروجاً مشرفاً، وبعد نهاية الحرب أن تعيد سوريا إلى فرنسا، ما عدا الجزء الشمالي".
ثم أرسل السفير الألماني تقريراً آخر بتاريخ 9 تموز 1941 قال فيه: "... وطلب (وزير خارجية تركيا) دراسة ما إذا كانت ألمانيا قد لا تعطي الموافقة على الاحتلال التركي لشمال سوريا (تقريباً حتى خط أنابيب أبوكمال ـ طرابلس) طبعاً كحل مؤقت حتى إقرار السلام". [الوثائق منشورة في كتاب "العالم العربي في وثائق سرية ألمانية 1937 ـ 1941"، ترجمة رزق الله بطرس. دار الوراق ـ لندن 2006].
فما أشبه الحاضر بالماضي!
إن روسيا وإيران سترتكبان خطأ استراتيجياً تاريخياً بحق الشعب السوري إذا راهنتا على المكاسب السياسية الآنية التي ستجنيانها بوضع الشمال السوري في عهدة القوات التركية من ضمن تفاهمات الآستانة. ذلك أن الوجود التركي، مهما كان "مؤقتاً" وبغض النظر عن كل الضمانات والوعود، يبقى خطراً قومياً مصيرياً من الشمال... مثله مثل الخطر الصهيوني من الجنوب: إحتلال الأرض واقتلاع الشعب.
|