كان اسم الرفيق محمود غزالي متداولاً بين القوميين الاجتماعيين منذ العام 1969 بوصفه أحد الصحافيين العاملين في جريدة "النهار". لكنه لم يحظ بشهرة إعلامية مميزة كونه من كتاب المواضيع الاقتصادية... والاقتصاد مادة جافة في أفضل الأحوال، على رغم أهميته للفكر القومي الاجتماعي آنذاك.
في الأول من أيار سنة 1970، أقام الحزب السوري القومي الاجتماعي احتفالاً مركزياً في إحدى صالات العرض السينمائي في منطقة برج حمود – النبعة، التابعة لمنفذية الضاحية الشرقية التي كنتُ ملتحقاً بإحدى مديرياتها. ووقع على عاتقنا تأمين الحماية اللازمة للمهرجان الذي كان من أوائل الإطلالات الشعبية للحزب بعد خروج القيادة من السجن.
الخطيب المركزي كان الدكتور عبدالله سعادة. وقد سبقه في الكلام الرفيق غزالي متحدثاً عن ظروف العمال وأهمية التخطيط لبناء اقتصاد يقوم على الإنتاج، وعلى توزيع الغنى لا على توزيع الفقر. لكن من سوء حظ الرفيق غزالي، بل بسبب ضعف التنظيم، أن ترتيب كلمته جاء بعد قصيدة شعبية حماسية ألقاها الرفيق الشاعر خالد زهر، فألهبت مشاعر الحضور الذين ما عادوا قادرين على استيعاب الكلام الاقتصادي المعتمد على الأرقام والتحليلات المنطقية.
تلك المناسبة كانت فرصة لقائي الأول بالرفيق غزالي. بعد ذلك تقاطعت طرقنا مرات عدة في العمل الصحافي الذي شكل بالنسبة إليّ مهنة مؤقتة خلال السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975. عملي في أرشيف جريدة "البناء" بين 1971 و1974، وعلى فترات متفرقة، لم يُفسح لي مجالاً واسعاً لمعرفته على المستوى الشخصي. غير أن مقالاته، الموقعة باسمه الصريح أو بأسماء وهمية، كشفت لنا جوانب من قدراته الصحافية المتنوعة خصوصاً أسلوبه الانتقادي اللاذع.
بعد توحيد جناحي الحزب في تشرين الثاني سنة 1978، تم دمج جريدة "البناء" ومجلة "صباح الخير" في مطبوعة واحدة هي "صباح الخير – البناء" التي استأنفت الصدور أسبوعياً، واحتضنت الكادر التحريري الحزبي كله، وترأس تحريرها الرفيق غزالي. وكنتُ في ذلك الوقت قد امتهنت العمل الصحافي في جريدة "السفير"، إلى جانب النشاط الحزبي المعتاد. فتوليت في "صباح الخير – البناء" رئاسة القسم السياسي للشؤون العربية. وكانت تلك بداية مرحلة الاحتكاك اليومي مع الرفيق غزالي لمدة ثلاث سنوات.
في اجتماعات التحرير الأسبوعية، وفي لقاءات المحررين اليومية برئيس التحرير، كان الرفيق غزالي يعطينا جميعاً، خصوصاً جيل الشباب، كل ما اختزنه من خبرات في عمله الصحافي المديد، ولكن بطريقة غير مباشرة. لم يكن "أستاذاً" لنا بقدر ما كان موجهاً ومربياً يعتمد الصداقة وسيلة للتثقيف. كان ينظر إلى الصحافة كجزء من حركة النهضة القومية، ويرى أن الصحافيين القوميين هم أولاً وقبل أي شيء آخر رسل توعية لكل المواطنين. وكثيراً ما شرح لنا الفارق الكبير بين أن تكون الصحافة مرآة لأحوال الأمة أو أن تكون منارة لمستقبلها.
هذا في الأسلوب، أما في المضمون (وأقصد بذلك فهم الأحداث السياسية والغوص في خلفياتها وأبعادها)، فقد كان ينظر إلى المسائل القومية والعالمية من خلال وعيه العميق للمنهج القومي الاجتماعي الذي نشأنا عليه جميعاً. لم يسمح للتحالفات السياسية الآنية (وهي مؤقتة بطبيعتها) أن تحرف أنظاره عن الصورة القومية الأشمل. وغالباً ما كان يُسدّد آراءنا بالكشف عن معلومات حصل عليها من مصادره الواسعة الإطلاع لتأكيد نقطة معينة تغني تحليلاتنا السياسية. وفي الوقت نفسه، كان يحرص على سماع كل ما عندنا، في السياسة كما في الثقافة كما في الفن... فنحن بالنسبة إليه هيئة تحرير قومية عليها أن تكون منارة الفكر القومي الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية.
أما الدرس الذي تلقنته منه شخصياً، وشكل لي علامة فارقة في مسيرة عملي الصحافي في لبنان أولاً وفي بريطانيا لاحقاً، فقد جاء بطريقة عرضية. استدعاني ذات صباح إلى مكتبه وقال لي إن الملحق الإعلامي بالسفارة العراقية في بيروت إتصل به طالباً اقتراح أحد الأشخاص لترجمة مقابلة أجريت مع مسؤول عراقي كبير ونشرت في مجلة "ماندي مورنينغ" الصادرة باللغة الإنكليزية في لبنان. وبما أنني خريج قسم اللغة الإنكليزية وآدابها بالجامعة اللبنانية، فيمكنني تعريب النص لقاء مبلغ مالي نتفق عليه بعد إنجاز المهمة. فرحبت بالفكرة، إذ أن أي مدخول إضافي في تلك الظروف سيكون موضع ترحيب حار!!
كان ذلك في العام 1978، أي بُعيد توقيع "ميثاق العمل القومي" بين بغداد ودمشق في مواجهة تصالح الرئيس المصري أنور السادات مع الكيان الصهيوني. يومها نشطت السفارة العراقية على مختلف الأصعدة ومع جميع الأطراف في لبنان للتعويض عن مرحلة الانكفاء التي ترافقت مع دخول قوات الردع العربية (معظمها من الجيش السوري) لوقف الحرب الأهلية في لبنان. ذلك أن العلاقة بين جناحي حزب البعث الحاكمين هنا وهناك كانت قد وصلت إلى الحضيض قبل إعلان الميثاق. ومن الطبيعي أن يكون الترحيب والدعم والمساندة لهذه الخطوة التوحيدية في صميم إعلامنا القومي الاجتماعي.
أنهيت تعريب المقابلة خلال يومين، وسلمت النص الذي أعدت كتابته بخط أنيق (لم تكن الطباعة منتشرة بين المحررين في ذلك الوقت) إلى الرفيق غزالي الذي أبلغني أنه سيتولى إرساله مع الساعي إلى مقر السفارة العراقية في منطقة الرملة البيضاء. لم نتحدث عن بدل الترجمة طالما أن الأمر كله متروك له. في اليوم التالي، استدعاني إلى مكتبه وقال لي إن الملحق الإعلامي تسلم النص وأعجبته الترجمة، وهو يريد أن يتعرف إلى المترجم ويعطيه المبلغ المالي المطلوب شخصياً. وقبل أن أعلق على هذا الكلام، أضاف: "لقد رفضتُ اقتراح الملحق، وقلت له إن إدارة المجلة هي التي طلبت من الرفيق تعريب المقابلة، وبالتالي هي المعنية بقبض المبلغ وتسليمه إلى صاحبه... فليس من عادة الرفقاء الصحافيين أن يطرقوا أبواب السفارات لقبض الأموال، حتى لو كانت من حقهم"! ثم فتح درج مكتبه وأخرج منه مغلفاً مغلقاً، وقال: "في المغلف مبلغ 300 ليرة لبنانية هي البدل الذي رأيته مناسباً".
ترددتُ في الاستفسار منه عن خلفية موقفه هذا. فأنا، من جهة أولى، أثق بحسن تقديره للأمور، فلو لم يكن هناك ما يستدعي مثل ذلك التصرف لما أقدم عليه. أما من الجهة الثانية، فقد كنت سعيداً بالمبلغ الذي يوازي المخصص الشهري الذي كنت أتقاضاه في مجلة "صباح الخير – البناء". ومع ذلك ظلت المسألة تلح في ذهني بين الحين والآخر، إلى أن سنحت لنا الفرصة ذات يوم بعد إنجاز غلاف عدد من "صباح الخير ــ البناء" كنت قد كتبت موضوعه الأساسي.
جلسنا منفردين في مكتبه، بعد أن أعددنا كوبين من الشاي. بدأ حديثه بالقول إنه سمح لنفسه باتخاذ القرار في ما يتعلق بعدم الذهاب إلى السفارة، وكذلك تحديد قيمة بدل الترجمة. قاطعته قائلاً: إن المبلغ يزيد عن المطلوب، لكن ما سر رفضه التوجه إلى السفارة علماً أننا كصحافيين كثيراً ما نقصد السفارات لحضور حفلات رسمية أو ديبلوماسية متنوعة؟
إبتسم بهدوء وهو ينفث دخان سيجارته في اتجاه بعيد عني لأنه يعرف كرهي الشديد للتدخين. قال: "يا رفيق أحمد، هناك فارق كبير بين حفلات رسمية أو ديبلوماسية يحضرها حشد من الناس وتجري على رؤوس الأشهاد، وبين زيارة إلى السفارة على انفراد لقبض مبلغ هو حق طبيعي لك. الناس لن تنظر إلى هذا الواقع بعيون بريئة، لأنها لا تدرك الصورة كاملة! هذا من جهة، أما الأخطر فهو أن الديبلوماسي الذي سيقدم لك المبلغ المستحق إنما يحاول أن يورطك، أنت وغيرك، في هوة الارتزاق بحيث تصبح عبداً للمدفوعات الدورية التي قد تكون مجانية في بداياتها، لكنها ستصبح مدفوعة الثمن لاحقاً... وغالباً ما يكون الثمن باهظاً جداً. هناك خيط رفيع جداً بين أن تقيم علاقات مشروعة مع الأطراف المختلفة وأن تنخرط في الارتزاق لتصبح رقماً جديداً على لوائح المدفوعات التي تعدها السفارات للذين يصطفون كل شهر أمام الأبواب الديبلوماسية لقبض جعالاتهم".
ثم نظر في عينيّ بتمعن وهويقول: "عليك أن تتذكر دائماً عبارة: إبعد عنا الشرير...آمين"!
|