لم نستغرب مواقف عدد من النواب، على مختلف مشاربهم، عندما قاد النائب الكتائبي سامي الجميّل "همروجة" التهجم على "حزب الله" ثم الرد الذي جاءه على لسان النائب نواف الموسوي عضو "كتلة الوفاء للمقاومة" مذكراً بعمالة الرئيس المنتخب بشير الجميّل للعدو الإسرائيلي. ذلك أن الاستقطاب الطائفي الحاد في الكيان اللبناني، والذي ينعكس بوضوح في بنية المجلس النيابي وفي تركيبة الحكومة أيضاً، لا يمكن أن ينتج إلا هكذا مناكفات ومماحكات يمكن في أية لحظة أن تُدخل البلاد في آتون الفتنة المذهبية مجدداً.
وهذا ما أدركته سريعاً قيادة "حزب الله" بعدما اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بحملات طائفية تحريضية ترافقت مع تحركات غوغائية على الأرض، خصوصاً قرب مناطق التماس المذهبية في بيروت، كادت أن تتحول إلى مواجهات مباشرة لولا أن المعنيين سارعوا إلى العمل على احتوائها بأقل خسائر ممكنة. ولذلك وقف النائب محمد رعد بعد أيام ليعلن باسم "كتلة الوفاء للمقاومة" التراجع عن الكلمات القاسية التي أطلقها الموسوي، مطالباً بشطبها من سجلات محاضر جلسات المجلس النيابي. فلاقت هذه "البادرة" ترحيباً من آل الجميّل الذين دعوا إلى "احترام الشهداء من كلا الطرفين"!
نحن نتفهم موقف "كتلة الوفاء للمقاومة" من هذه "الهمروجة" الكتائبية وتداعياتها الخطيرة على السلم الاجتماعي في الكيان اللبناني. ذلك أن قيادة "حزب الله" تتحسب بدقة لما يتم تخطيطه للمنطقة بصورة عامة، وللكيان اللبناني بصورة خاصة. فالمواجهة الأميركية ـ الإسرائيلية مع إيران باتت ممتدة على مساحة المنطقة الإقليمية برمتها، ولبنان لن ينجو منها مهما فعل... بل يمكن التأكيد على أنه سيكون إحدى ساحاتها الأساسية. ولا نحتاج إلى خبير في التبصير كي نكشف بالفم الملآن هوية الأدوات المحلية الجاهزة دائماً للإنخراط في مشاريع التآمر على مصالحنا القومية.
الفكر الانعزالي اللبناني لم يختفِ عن الساحة، وإنما اتخذ لنفسه أقنعة مختلفة بعدما مُني بهزائم عدة خلال العقود الأربعة الماضية. لكنه كان يعود ليتحصن خلف شعارات متجددة من الشحن الطائفي في مواجهة "الآخرين". ونظراً إلى أن "اتفاق الطائف" السيء الذكر كرّس المحاصصة الطائفية على حساب العمل على إلغاء "الطائفية السياسية"، فقد كان من الطبيعي أن تعود الكتل النيابية إلى قواعدها المذهبية عندما تصل السكين إلى رقبتها، أو عندما تهب على المنطقة رياح عاتية ربما تهدد مصالحها الآنية والاستراتيجية على حد سواء. وسبق لنا أن شهدنا مثل تلك التراجعات أو المراجعات منذ الزلزال الذي عصف بالكيان اللبناني في أعقاب مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
موقف "كتلة الوفاء للمقاومة" من "الهمروجة" الكتائبية مفهوم في سياقه المحلي والإقليمي. غير أنه لا يغيّر شيئاً في الحقائق الدامغة المتعلقة بدور بشير الجميّل، والقوى الانعزالية قاطبة، في التعامل التاريخي مع عدونا القومي. فقد كان بشير الذروة الطبيعية لعلاقة تمتد منذ أن برز مشروع الدولة اليهودية على ترابنا القومي في فلسطين، وهي علاقات موثقة تُوجت بتنصيب أحد أعتى الانعزاليين وأكثرهم دموية رئيساً على الكيان اللبناني بدعم من الدبابات الإسرائيلية. ولولا أن حبيب الشرتوني ونبيل العلم نفذا حكم الشعب المنصوص عنه في "الدستور اللبناني"، لما كان النائب الموسوي ولا النائب رعد ولا أي نائب آخر من "تيار المقاومة" بقادر على الانتقاد أو المراجعة في مثل هذه المسائل... بل لما تمكن واحد منهم من شغل مقعده في المجلس النيابي أو في الحكومة.
إن التوضيح الذي أطلقه النائب رعد يمكن أن يسد باب الذرائع الفتنوية في هذه المرحلة المفصلية في مسار المنطقة. وربما كان هذا الموقف ضرورياً في هذا الوقت. لكن للتاريخ منطقاً آخر مغايراً: إن تاريخنا القومي يسجل أن الشرتوني والعلم منعا الكيان اللبناني من الدخول صاغراً في عصر "السلم الإسرائيلي" تحت حراب انعزالية طائفية عنصرية يقودها الإبن البار لآل الجميّل... وكل ما عدا ذلك مجرد "صف حكي"!
|