كنا خمسة أصدقاء في حيز جغرافي مكتظ يدعى "النبعة" بمنطقة برج حمود ـ الضاحية الشرقية من بيروت. سامي وعلي وخليل وجوزيف وأنا، تتراوح أعمارنا بين 13 و14 سنة. جمعتنا المدرسة والحياة اليومية الصعبة في واحد من أحزمة الفقر التي زنّرت العاصمة، ووفّرت اليد العاملة الرخيصة لبيروت. كان ذلك في أواسط ستينات القرن الماضي، وما كنا قد تعرفنا بعد إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. استهوتنا التجارب الثورية حول العالم: فييتنام، تشي غيفارا، التوبوماروس... فقررنا "تقليد" تلك الثورات محلياً.
نحن طلبة في المرحلة التكميلية، ويتوجب علينا الالتزام بقواعد عائلية صارمة: لا تدخين، لا غياب لمدة طويلة عن البيت، لا هدر للوقت في لعب الورق أو البلياردو أو الفليبرز، وأهم شيء لا سينما في بحر الأسبوع!! والحقيقة أننا لم نلتزم حرفياً بتلك التعليمات، لكننا في الوقت نفسه ما تجرأنا على خرقها علناً. وكنا نجد دائماً طرقاً للاحتيال على الترتيبات العائلية، باستثناء مشاهدة الأفلام. فالعرض الأول يومياً، والذي يناسب توقيتنا، يمتد من الثالثة حتى السادسة من بعد الظهر. لذلك عمد أهالينا إلى تحديد الساعة الخامسة كحد أقصى للعودة إلى البيت. فما العمل؟ كنا ندخل صالة السينما، لكن ما أن تقترب الساعة من الخامسة حتى نسرع بالمغادرة قبل أن ينتهي العرض.
نحن الخمسة غير القادرين على المواجهة السينمائية، والذين يتعرضون لشد الأذن إذا شوهدوا والسيجارة في يد أحدهم، كنا نصدر بيانات "ثورية" تعلن التضامن مع القوى التحررية في كل مكان، وتندد بالإمبريالية العالمية، وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور تجاه الولايات المتحدة الأميركية بوصفها قائدة المعسكر الإمبريالي!! بيانات غير موقعة، أو نختار لها أسماء وهمية طنانة ورنانة... نرميها في الشوارع عشوائياً على أمل ان تلفت نظر المارة، فيقرأونها. ثم نجلس بانتظار اندلاع الثورة الجماهيرية العارمة.
أعترف أننا لم نسمع تعليقات على أي من بياناتنا المغفلة التوقيع. ونحن من جهتنا ما حاولنا إثارة الموضوع حرصاً على السرية... وخوفاً من العقوبات العائلية. وفي مرات نادرة كان الكبار يتبادلون الآراء حول شؤون الساعة. وإذا شط بهم الحديث إلى تناول بيان ما، فالتعليقات الساخرة تبدأ من عبارة "الحكي ما عليه جمرك"... وصولاً إلى مثل شعبي ليس من المناسب ذكره في هذا المكان، لكن له علاقة بالصوت والبلاط!
ثم كبرنا، وتعقلنا، وتفرقت طرقاتنا... وأوقفنا لعبة البيانات. غير أنني سرعان ما اكتشفت أن بعض "البالغين" يمارسون أيضاً هذه اللعبة لغايات خطيرة وخبيثة في آن واحد. فقد شهد الحزب السوري القومي الاجتماعي مطلع سبعينات القرن الماضي نشوء "تنظيم سري" قادته شخصيات حزبية تاريخية. المشكلة لم تكمن في وجود هذا التنظيم ونشاطاته، بل في العديد من البيانات الموقعة بأسماء وهمية والتي تستهدف عقيدة الحزب ونظامه ورموزه. وقد تبيّن لنا بعد ذلك أن عناصر شيوعية هي التي تقف وراء البيانات السرية، يساعدها "رفقاء سابقون" تحولوا نحو الماركسية بوصفها موضة تلك الفترة. ولا شك في أن تلك العناصر المخرّبة والمأجورة استغلت وجود "التنظيم السري" لتمعن طعناً وتشويهاً بالحزب ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
أستعيدُ ذكريات الماضي غير البعيد وأنا أشهد كل يوم صدور بيان من هنا وبيان من هناك حول أزمة الحزب الكارثية. وليس مستغرباً صدور مثل هذه البيانات في ظل الانشقاق الحاصل، فهذا من طبيعة الخلافات الداخلية. أما غير الطبيعي فهو أن تُوزع بيانات من دون توقيع أو بأسماء وهمية يسمع بها القوميون للمرّة الأولى. ونحن هنا لا نتحدث عن المضمون، لا سلباً ولا إيجاباً، فذلك يتطلب مناسبة أخرى. نريد فقط تبيان سبب أو أسباب غياب التوقيع الصريح باسم شخص أو باسم جماعة، وبالتحديد خلال أزمتنا الحالية؟
يمكنني أن أقدم تفسيرات عدة لتخفّي واضع أو واضعي البيانات المغفلة:
ـ إذا كان لا يمثل إلا نفسه وبعض من يدور في فلكه، ولا يشكل أية قوة مؤثرة، فالبيان المغفل يسبغ عليه قيمة لا تتناسب أبداً مع حقيقته وحجمه داخل الصف الحزبي.
ـ إذا كان مناوراً، فالوضع الحزبي الراهن يتطلب الشجاعة والوضوح والشفافية. ولن يكون هناك إنقاذ على يد مثل هذا الشخص.
ـ إذا كان يريد الانتقاص من "الأطراف الأخرى"، فهو لا يستطيع أن يشكل عامل توحيد وتعاون.
ـ إذا كان يخشى ردة الفعل، فهو جبان لا يستحق أن يكون في الحزب... ناهيك عن تنطحه لدور قيادي.
جميع هؤلاء النماذج في "كوم"، والنموذجان التاليان في "كوم" مختلف تماماً وأكثر خطورة بأشواط:
• الغريب المندس الذي يستغل الخلافات والمماحكات، لينكأ الجراح ويحرض على الحقد، ويشوّه العقيدة القومية الاجتماعية تحت ستار الانتصار لأحد الأطراف وشيطنة طرف آخر. ولا يتردد هذا النموذج من اللعب على الحبلين، فيهاجم جهة معينة من موقع المعارض، ثم ينتقل إلى الضفة الأخرى ليهاجم المعارضة من خندق الموالاة. إنه العدو اللدود المستتر في لبوس الصديق!
• ثم هناك النموذج الذي باع جسده وروحه بثلاثين من فضة. ولأنه يعرف دواخل الحزب كونه من "أعضائه"، فهو قادر ـ ليس فقط على توجيه ضرباته إلى المناطق الحساسة ـ بل وإصابة أهدافه بدقة موجعة.
القوميون الاجتماعيون لن يستطيعوا منع صدور البيانات من كل الأنواع، خصوصاً في أوضاعنا الراهنة. ولا تحفظ لدينا حول مصداقية بعض العاملين على الساحة الحزبية، بأسمائهم الصريحة. لكن أي بيان لا يصدر بتوقيع صريح يجب أن يخضع فوراً للشك والتدقيق. وإذا طبقنا المقاييس أعلاه على مثل هذا البيان، فنحن أمام مجهول يُخفي ضعفاً، أو يُخفي فشلاً، أو يُخفي ضِعة، أو يُخفي جبناً، أو يُخفي خبثاً، أو يُخفي غدراً... أو يُخفي خيانة!
|