تدير القيادة الروسية "معركتها" في سوريا الشام على مستويات عدة ومع أطراف مختلفة، لكن في اتجاه استراتيجي واضح كان هو السبب الأساسي الذي لأجله انخرطت موسكو بالقوة العسكرية المؤثرة في الأزمة الشامية قبل حوالي السنتين. وهي تمكنت فعلاً، بمساعدة قوى أخرى حليفة لدمشق، من تعديل موازين القوى الميدانية لصالح الدولة الشامية في غالبية مناطق المواجهة بحيث بات بالإمكان عقد مؤتمرات آستانة وجنيف على أمل التوصل إلى صياغة حل سياسي مقبول محلياً وإقليمياً ودولياً في الوقت نفسه.
وإذا نظرنا الآن إلى تفاهمات إنشاء مناطق "خفض التوتر" التي تعلنها وزارة الدفاع الروسية في أنحاء سورية عدة، لوجدنا انخراطاً إقليمياً ودولياً قد يبدو غريباً للوهلة الأولى. فالمناطق الأربع الأولى رعتها روسيا إلى جانب إيران وتركيا. ثم جاءت منطقة الجنوب الغربي (درعا ـ السويداء ـ القنيطرة) برعاية روسية ـ أميركية ـ أردنية (بوجود تفاهم غير مباشر مع "إسرائيل"). وبعدها حان دور الغوطة الشرقية التي شهدت دخول مصر على الخط، تماماً كما ظهر دور هذه الأخيرة في مناطق شمال حمص. والعمل حالياً قائم على قدم وساق لترتيب وضع مماثل في الشمال بالتعاون مع تركيا. ولا بد من التأكيد على أن ذلك كله يجري تحت مظلة توافق روسي ـ أميركي محدد.
لكن ما هو الاتجاه الاستراتيجي الذي يحكم التحركات الروسية في سوريا؟ وكيف سيؤثر على مخططات الحل السياسي المرصود لبلادنا؟
نحن نستطيع أن نتبيّن مظاهر عدة لذلك الاتجاه من خلال مراقبتنا للتحركات الروسية كما تبدّت على أرض الواقع خلال السنوات الثلاث الماضية:
أولاً ـ موسكو حريصة بشدة على منع سقوط الدولة الشامية. ولا نقصد بذلك النظام السياسي فحسب، وإنما مؤسسات الدولة وأجهزتها وبنيتها الدستورية خصوصاً المؤسسة العسكرية. فمنذ اندلاع الأزمة في الشام، وقفت موسكو سداً منيعاً في مجلس الأمن الدولي لمنع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية من تكرار الخديعة الليبية. وعندما أدركت أن خللاً خطيراً أصاب ميزان القوى العسكرية في منتصف العام 2015، لم تترد لحظة في التدخل العسكري الحاسم.
ثانياً ـ تدرك روسيا أنها بأمس الحاجة للحفاظ على تواجدها العسكري في شرقي البحر الأبيض المتوسط، إذ أنها لا تملك أية إطلالة على تلك المياه الدافئة سوى طرطوس ـ اللاذقية. وهذه الحاجة الاستراتيجية مرتبطة عضوياً بمنع سقوط الدولة الشامية، كما ذكرنا أعلاه. فالتدخل العسكري الروسي في سوريا حقق غايتين حيويتين مترابطتين، وليس توقيع المعاهدات الروسية ـ السورية لتوسيع القواعد البحرية وتعزيزها إلا تحصيل الحاصل في الاتجاه الاستراتيجي الروسي.
ثالثاً ـ كان على موسكو أن تخوض "معركتها" السورية في خضم تورط قوى إقليمية ودولية عدة ذات مشاريع ومصالح متناقضة في سوريا، من تركيا إلى إيران ومن قطر إلى السعودية... ناهيك عن "إسرائيل" والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. لذلك راوحت طبيعة التعاطي الروسي مع هذه القوى، كل منها على حدا، بين المواجهة المبدئية (تركيا في المرحلة الأولى) والتحالف الميداني (إيران) وصولاً إلى التنسيق التدريجي (تركيا والولايات المتحدة لاحقاً). وقد نجحت موسكو في إشراك غالبية هذه القوى أو تحييدها في سياق ترتيبات "خفض التوتر".
رابعاً ـ موسكو على قناعة تامة، عبّرت عنها القيادات الروسية في مناسبات كثيرة، بأنه لا حل عسكرياً للأزمة السورية. وبالتالي هذا يعني ضرورة التوصل في وقت ما إلى صيغة تسوية بين "الأطراف السورية المختلفة". وتنطلق تلك القناعة مما يمكن أن نسميه "الدرس الأفغاني" سواء في تجربة الغزو السوفياتي (الروسي) لأفغانستان في سبعينات القرن الماضي أو الغزو الأميركي في مطلع القرن الحالي.
فلنأخذ نموذج الغزو الأميركي لأنه مستمر حتى الآن. مئات الألوف من القوات الأميركية والأطلسية، مدعومة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، فشلت في تطويع الشعب الأفغاني حتى بعد مرور ست عشرة سنة على الغزو. ولم تحقق الحشود والحملات العسكرية المتكررة سوى المزيد من الخسائر من دون أي تقدم نحو حل سياسي يخرج الولايات المتحدة من هذا المستنقع. وقد باتت الإدارة الأميركية على قناعة تامة بأن أية تسوية يجب أن تلحظ مشاركة حركة "طالبان" كطرف أساسي مفاوض، لكن بعد أن تكون قد نأت بنفسها عن بقايا "القاعدة" وكذلك عن "تنظيم الدولة الإسلامية" الذي أصبح له موطئ قدم في أفغانستان.
روسيا التي أحرقت أصابعها العشرة في الميدان الأفغاني لا تريد أن تكرر تلك التجربة المريرة في الميدان السوري. وهي تعرف أن الانتصارات في الميدان العسكري يجب أن تترجم إلى مكاسب سياسية من أجل ضمان عودة الدولة السورية إلى الاستقرار المنشود. لكن الحلقة المفقودة في هذه الخطة هي "الطرف الآخر" المستعد، ليس للجلوس إلى طاولة المفاوضات فحسب وإنما للتوصل إلى تسويات تاريخية مقبولة من الجميع. ولا شك في أن روسيا حاولت جاهدة في هذا الاتجاه، فدعمت "منصات معارضة" في موسكو والقاهرة ودمشق على أمل أن تكون بديلة عن "معارضة الرياض"... لكن من دون تحقيق خرق جدي حتى هذه اللحظة.
ونحن نعتقد بأن المسعى الروسي الحالي هو العمل على تفكيك مناطق القتال، كما ذكرنا في مقال سابق، بهدف دفع "الفصائل المعارضة" إلى الفرز الداخلي وحسم إرادتها بالتفاوض الجاد حتى لو أدى ذلك إلى تصفيات داخلية (كما نشهد كل يوم تقريباً في المناطق الخارجة عن سلطة الدولة). ورهان روسيا، بدعم إقليمي ودولي خجول حتى الآن، هو أن تسفر عمليات التفكيك والفرز عن بروز "معارضة" تلتقي عند الحد الأدنى من بنود التسوية التي روّجت لها موسكو في جنيف. وفي مثل تلك الحالة، سيصبح من الطبيعي والمتوقع أن يقدم "طرفا" المفاوضات التنازلات الكفيلة بتحقيق الحل السياسي.
طبعاً هناك لاعبون آخرون على الساحة السورية غير روسيا، وكل واحد منهم يمكنه أن يضع العصي في دواليب التسوية فيعرقلها. لكن موسكو لم تستثمر كل هذا الجهد العسكري والسياسي إلا لتحقيق إتجاهها الاستراتيجي الواضح. وفي هذا السبيل، فإن سياسة العصى هي لمن عصا... بينما الجزرة مدلاة لمن يختار السير في الاتجاه الصحيح!
|