منذ أن تبنت قيادة الحزب السوري القومي في الوطن سياسة «الواقع اللبناني» سنة 1944، وحصلت على رخصة رسمية من وزير الداخلية كميل شمعون للعمل تحت اسم «الحزب القومي»، بات من الضروري التخلص من أنطون سعاده، مؤسس الحزب وزعيمه الموجود آنذاك في مغتربه القسري الأرجنتين. ولتحقيق هذه الغاية التي شارك في التخطيط لها قياديون مركزيون، وبالتعامل مع مصالح إقليمية مشبوهة، وُضعت مجموعة من السيناريوهات المتلاحقة التي تسعى بحدّها الأدنى إلى إبعاد سعاده عن الحزب وبحدّها الأقصى تصفيته جسدياً. وكان الأعداء مرتاحين إلى أوضاعهم طالما أن الحرب العالمية الثانية تعرقل المواصلات، وطالما أن السفارة الفرنسية التي ترعى شؤون اللبنانيين في الخارج ترفض منح سعاده أية وثيقة للسفر.
لكن الأمور بدأت تتغيّر حينما وقّعت ألمانيا وثيقة الاستسلام للحلفاء في 8 أيار 1945. غير أن الحرب ظلت مستمرة في مناطق المحيط الهادئ إلى أن استسلمت اليابان رسمياً في 2 أيلول من العام نفسه. ويُعتبر هذا التاريخ النهاية الرسمية للحرب. وشيئاً فشيئاً عادت الأمور إلى طبيعتها، خصوصاً في ما يتعلق بالاتصالات والمواصلات بين الدول. وقد سارع سعاده، الذي كان ينتظر هذا الأمر بفارغ الصبر، إلى تنظيم عملية التواصل مع المركز في بيروت بعد انقطاع طويل. وطلب من الفروع في الخارج أن تحاول «الاتصال العاجل بمكتب عبر الحدود أو بأية مؤسسة من مؤسسات الحزب المركزية»، (رسالة بتاريخ 29 تشرين الثاني 1945) داعياً إلى الحيطة والحذر: «واجعلوا الكتاب الأول بشكل تحفظي إلى أن تردكم أول رسالة، ومنها تقفون على شكل المراسلة الذي يمكنكم التعويل عليه».
من حيث المبدأ، كانت فكرة العودة إلى الوطن على رأس سلم أولويات الزعيم. ومع ذلك كان يحتاج إلى دراسة الوضع بدقة. يقول في رسالة بتاريخ 20 آذار 1946: «لكن أمر عودتي إلى الوطن يتوقف على بحث هذه النقطة مع المجلس الأعلى، وعلى التقارير التي ستردني من المجلس الأعلى موضحة الحالة الراهنة هناك». إن طرح فكرة العودة مع المجلس الأعلى، الذي أخذ الحزب في اتجاه كياني، فتح أعين المسؤولين المنحرفين في الحزب... فانطلقت سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى الحد من الخطر الذي يشكله سعاده على الرجعيين والطائفيين، كما على المشروع الصهيوني في فلسطين.
السيناريو الأول، وكانت تباشيره قد ظهرت قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، تمثل في إقامة الحواجز بين سعاده والقوميين الاجتماعيين في الوطن. ففي الوقت الذي روّجت القيادة الحزبية، خصوصاً عمدة الإذاعة وعمدة الثقافة، لمفاهيم مخالفة للفكر القومي الاجتماعي، أقدمت هذه القيادة أيضاً على منع نشر نداءات الزعيم ومقالاته إلا القليل منها. كما اتخذت عمدة الداخلية قرارات فصل وطرد بحق القوميين لاجتماعيين الذين رفضوا سياسة «الواقع اللبناني» المخالفة لعقيدة الحزب.
السيناريو الثاني، بعد توقف الحرب، تضمن «التنسيق» مع السلطات اللبنانية من أجل عرقلة حصول سعاده على جواز سفر يتيح له مغادرة الأرجنتين والعودة إلى الوطن. وبينما كانت السفارة اللبنانية ترفض منحه جواز سفر، كانت القيادة الحزبية في بيروت تماطل وتتلكأ في العمل لحل هذا الإشكال على الرغم من إلحاح الزعيم. ومن الواضح أن المسؤولين المركزيين كانوا على موجة واحدة مع السلطات الحكومية في هذه المسألة.
السيناريو الثالث، بعد تمكن القوميين في البرازيل من الحصول على جواز السفر بطرقهم الخاصة، إنطلق سعاده برحلة العودة حيث توقفت الطائرة في القاهرة. وهناك تكشّفت تفاصيل السيناريو مع نعمة ثابت وأسد الأشقر اللذين توجها إلى العاصمة المصرية حاملين توصية من القيادة الحزبية بأنه «من غير المفيد» عودة سعاده في هذه الظروف. وفي حال إصرار سعاده، كما هو متوقع، يُطلب إليه بأن يكون «مرناً» في خطابه عند الوصول بتاريخ 2 آذار سنة 1947.
السيناريو الرابع جاء مع مذكرة الاستجواب في اليوم التالي لوصول الزعيم، ثم مع مذكرة التوقيف التي صدرت عند منتصف آذار. لم يكن سعاده راغباً بالتصعيد مع السلطات، فالمهمة الأولى التي تستدعي كل جهوده في تلك الفترة تتركز على معالجة الوضع الداخلي في الحزب. غير أنه رفض الخضوع لإجراءات غير قانونية، واعتصم في مناطق تواجد القوميين. ومرّة أخرى تُظهر القيادة المنحرفة حقيقتها وتورطها. وقد أصبح سعاده أكثر تصميماً على المواجهة بعدما نقل له الدكتور عبدالله سعادة رأي القيادة الحزبية التي عقدت اجتماعاً عاجلاً بعد صدور المذكرة وإعلان العصيان. يذكر الدكتور سعادة في مذكراته «أوراق قومية» أنه «ظهر الإرباك الكبير بين قياديي الحزب الذين التقوا في مكتب (مأمون) أياس في سوق أياس. وتداولوا في خطورة قرار الزعيم بالعصيان المسلح. واتخذ الحاضرون قراراً شبه إجماعي بإرسال توصية للزعيم تطالبه بأن التسليم للقضاء اللبناني لا يشكل إساءة إليه، وأن المساعي المتعددة قد ترتب الأمر بصورة سلمية بعد توقيفه بوقت غير طويل. وأن سجن الزعيم إذا سُجن، ليس عاراً بل هو من نتائج النضال الطبيعية، بينما العصيان المسلح سيدخل الحزب في متاهات الصدام مع السلطة ومضاعفاته الخطيرة». وظلت المذكرة سارية حتى أواخر السنة تقريباً. وعندما تم سحبها أخيراً بفعل الوساطات السياسية، إنتقلت السيناريوهات إلى مرحلة جديدة هي التخطيط للتخلص من سعاده جسدياً.
السيناريو الخامس بدأ في الجميزة، واستخدم الذين خططوا له عناصر الغوغاء في حزب الكتائب لافتعال اشتباك قد يؤدي إلى مقتل سعاده. وإن لم يحصل ذلك لأي سبب من الأسباب، تكون الأجهزة الأمنية الحكومية مستعدة لملاحقة القوميين وصولاً إلى سعاده نفسه. لقد نجحت السلطات في الشق الأول، أي شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوميين، لكنها فشلت في الوصول إلى سعاده الذي انتقل إلى دمشق. وهنا يظهر دور العامل الإقليمي.
السيناريو السادس تركز على حسني الزعيم الذي قاد أول انقلاب عسكري في الشام بتاريخ 30 آذار سنة 1949. وتبيّن لاحقاً أن القوى الخارجية رسمت له دوراً معيناً، جزء منه يرتبط بسعاده. فقد أعلن تأييده له ووعد بمساعدته ودعاه إلى دمشق. ويبدو أن ذلك كله كان في إطار الخطط المصرية والسعودية والأميركية والصهيونية التي تضافرت جهودها لكي يقوم حسني الزعيم بتسليم سعاده للسلطات اللبنانية. وقد فعل ذلك مشترطاً أن يتم التخلص من سعاده داخل الأراضي اللبنانية.
السيناريو السابع، المقرر على أعلى مستويات السلطة في الدول المتورطة، لم يتحقق لأن المكلفين بتنفيذه تراجعوا في آخر لحظة خشية من تداعيات هذا الفعل. إذ كانت تعليمات الحكومة اللبنانية تنص على اغتيال سعاده بعد عبور «الحدود» بين البلدين، والزعم بأنه قُتل أثناء محاولته الفرار! وعندما فوجيء المسؤولون بوصول سعاده إلى بيروت أسرعوا إلى السيناريو الثامن والأخير: المحاكمة الصورية والإعدام العاجل.
يتضح من هذا العرض أن كل هذه السيناريوهات، وصولاً إلى الإعدام ـ الاغتيال، هي عملية سياسية بامتياز، لكنها أُعطيت لبوساً قانونياً مخادعاً. ومع أن مسألة المحاكمة والإجراءات المرتبطة بها نُوقشت في كثير من المقالات والدراسات، فنحن نعتقد بأنه من الضروري مقاربتها بطريقة منظمة يتولاها حقوقيون قوميون اجتماعيون (وغير قوميين طبعاً). صحيح أن خطة التخلص من سعاده هي قرار سياسي أولاً وأخيراً، غير أنها جرت في سياق قانوني مشبوه. قد لا يكون باستطاعتنا إعادة محاكمة سعاده، أو من غير المفيد أن نقوم بذلك. لكننا على الأقل نكون قد سجلنا في تاريخ القانون رؤيتنا القومية الاجتماعية لحقيقة استهداف سعاده منذ أن قرر العودة إلى الوطن.
وكان الأمين ميشال الحاج، رئيس المحكمة السابق في الحزب السوري القومي الاجتماعي، قد طرح في ندوة نظمتها «مؤسسة سعاده للثقافة» قبل أيام بأن تكون هناك محاكمة تاريخية وليس إعادة محاكمة. فسعاده لم يُحاكم، بل جرى اغتياله عن سابق تصور وتصميم بقرار شارك فيه بشارة الخوري ورياض الصلح ووزراء وقضاة وضباط. إن اللجنة القانونية القومية الاجتماعية المزمع إنشاؤها، وتضم حقوقيين حزبيين وآخرين مستقلين، ستكون قادرة على كتابة تاريخ تلك المرحلة العاصفة من حياة الأمة السورية، وفي الوقت نفسه إعلان الكلمة الفصل في واحدة من أبشع الجرائم المرتكبة زوراً وبهتاناً باسم القانون و»الشعب اللبناني»!
|