دخلت الجمهورية السورية في مرحلة تسمى "النزاع المُجمّد"، أي ثبات الأمر المفعول على الأرض حيث تعجز الأطراف المتصارعة، أو أنها لا ترغب أو لا يُسمح لها، في الحسم الميداني بانتظار حدوث متغيرات سياسية قد تعدّل في موازين القوى لصالح هذا الطرف أو ذاك. وخطورة "النزاع المُجمّد" أنه يؤجل معالجة الوضع الداخلي، ويوفر بيئة خصبة تعزّز التدخل الخارجي، ويُبقي الأزمة مشرّعة وجاهزة للإنفجار في أية لحظة.
وعلى الرغم من "الإنجازات" الميدانية التي حققها الجيش السوري النظامي وحلفاؤه والقوى الرديفة خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن الواقع السوري الراهن هو واقع "احتلالات متعددة" تقف الدولة عاجزة ـ مرحلياً على الأقل ـ عن إنهائها بالوسائل العسكرية أو السياسية. ففي الشمال والشمال الغربي وضعت تركيا يدها على إدلب والمناطق المجاورة تحت "رعاية" منصة الآستانة الثلاثية (مع روسيا وإيران). وفي الشرق والشمال الشرقي احتلال أميركي ـ أطلسي مباشر يتخفى خلف شعار مكافحة الإرهاب. أما إسرائيل فهي تحتل الجولان منذ عقود، وتمارس إلى جانب ذلك احتلالاً جوياً على مدى الجغرافيا السورية بدعم أميركي و"تفاهم" روسي.
ومع أن "الوجود" الإيراني والروسي في سوريا متواجد رسمياً بطلب شرعي من الحكومة السورية، إلا أننا مضطرون للنظر إليه من زاوية المصالح القومية لكل من طهران وموسكو التي يمكن ـ في لحظة من اللحظات ـ أن لا تتناغم مع المصالح القومية السورية. ولدينا مثال فاقع ما حدث في الأيام القليلة الماضية بما يتعلق ببقايا الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا في معركة السلطان يعقوب خلال الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982. ونحن لا نقصد أبداً عقد مقارنة بين "الاحتلالات" التركية والأميركية والإسرائيلية من جهة و"الوجود" الروسي والإيراني من جهة أخرى. لكننا ندعو إلى إبقاء هذا الواقع في أذهاننا عندما نتناول "النزاع المُجمّد" ومآلاته المستقبلية.
الصراع في سوريا وعليها لم يأتِ من فراغ، وليس هو مجرد نتاج "مؤامرة خارجية" فقط. فنحن مسؤولون عن تهيئة المجال للتدخل الخارجي، يستوي في ذلك الحكومة والمعارضة، وبالتالي نحن نتحمل مسؤولية أساسية في وصول النزاع إلى مرحلة التجميد التي لا تفيد إلا الأطراف الخارجية. ولذلك تقع على عاتق الحكومة، ومعها كل القوى السورية الحريصة على المصلحة القومية، المهمة المركزية الأولى ألا وهي عدم السماح بديمومة التجميد على المدى البعيد ومهما كلف الأمر.
ربما يؤدي هذا القرار الحاسم إلى إحراج "الحلفاء" الإيرانيين والروس. وربما يشعر المسؤولون الحكوميون بأن الإقدام على كسر دائرة الجمود قد يهدد بنية النظام. وربما يكون ثمن التصدي باهظاً على كل المستويات... كل هذا محتمل! لكن الأكيد أن المخاطر التي يحملها "النزاع المُجمّد" تفوق بأضعاف مضاعفة الإقدام المدروس على رفض الأمر الواقع، والإعداد لمواجهته بكل السبل المُتاحة. لكن هذا الموقف الجذري الجديد يتطلب تغييراً جوهرياً في منهجية التعاطي الحكومي، خصوصاً وأن المنهجية التي مُورست على مدى العقود الماضية كانت مسؤولة إلى حد بعيد عن الكوارث القومية التي حلت بنا في مختلف كيانات الأمة.
لا تستطيع قياداتنا القومية في الشام والعراق ولبنان أن تتصرف وكأن الزلزال الذي ضرب كل مُسلماتنا هو مجرد حدث عابر. وهي لا تستطيع أيضاً أن تعتبر "النزاع المُجمّد" فرصة سانحة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والاستمرار في الممارسات الكارثية التي أوصلتنا إلى حالة التشرذم والتذابح الأهلي المصحوبة بالاحتلالات والتدخلات الأجنبية. "التجميد" في الضفة الغربية أودى إلى تهويد شبه كامل. و"التجميد" في الجولان أوصلنا إلى رئيس أميركي "يهدي" المرتفعات إلى دولة الاحتلال الصهيوني. وكاد "التجميد" في لبنان أن يُفقدنا الجنوب... لولا مقاومة ابتدأت بالتخلص من أفاعي الداخل قبل التركيز على أفاعي الخارج.
الخطوة الأولى في الإعداد الرصين لإسقاط وضعية "النزاع المُجمّد" تقوم على الاعتراف بأخطاء الماضي واستيعاب الدروس منها، ثم البدء ببناء أوسع قاعدة شعبية على أساس المصالح القومية العليا وليس فقط مصلحة بقاء هذا النظام أو ذاك. في الأزمات القومية المصيرية يكون التحدي وجودياً. ومقياس حق أي شعب في الانتصار (والبقاء) هو قدرته على السمو لمواجهة تلك التحديات. لقد أثبت شعبنا، وإن بأشكال غير مترابطة وغير منظمة، استعداده غير المتناهي للعطاء والتضحية... يبقى أن تكون القيادات الحكومية والسياسية والحزبية على سوية هذا الشعب، كي لا يتجذر "النزاع المُجمّد" فيصبح واقعاً يصعبُ تغييره!
|