... و"عزة" هو اللقب الحركي والصحافي للرفيقة مي مكارم حماده التي غادرتنا في السادس عشر من هذا الشهر، بعد فترة مرض لم تمهلها طويلاً.
سمعتُ بها في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية (1975 ـ 1976) يوم كان الحزب السوري القومي الاجتماعي منقسماً على ذاته. وكانت هي في الطرف الآخر: ناشطة، متحركة، متحمسة... مع قليل من الفوضى المنظمة. وما كانت من هواة التنظير والتحليل، بل مارست قناعاتها وإيمانها في الميدان الاجتماعي. جذبتها المسائل الشعبية، فشاركت الناس همومهم ونقلتها في تحقيقات صحافية تركت أصداء فاعلة في زمن سيطرت عليه غرائز التعصب.
كنا نلتقي بين الحين والآخر وبيننا جدران من الشك والحذر. كل منا في جهة تنظيمية، على رغم مسيرتنا في الاتجاه الواحد... إلى أن تحققت "وحدة" الحزب سنة 1978، فوجدنا أنفسنا رفقاء وزملاء في مكاتب مجلة "صباح الخير ـ البناء". في خضم العمل الصحافي والنشاط الحزبي ترافقنا على مدى سنتين، لنكتشف أننا "نشبه" بعضناً بعضاً، وأننا نمارس القيم ذاتها، وأن أسوار الكراهية والفرقة القائمة بين القوميين تتحمل مسؤوليتها قيادات غذّت التناقضات لمصالحها الشخصية.
كانت هناك نقاط خلاف عدة مع الرفيقة "عزة"، نناقشها معاً بحماس وحدّة في أحيان كثيرة. والغريب أننا كنا، بعد كل "مباراة حوارية"، نشعر باقترابنا أكثر فأكثر إلى وحدة الرؤية والاتجاه. انقطع هذا الحوار في 5 تشرين الثاني سنة 1980 بعد جريمة قتل بشير عبيد وكمال خيربك وناهية بجاني... فقد غادرتُ بيروت إلى لندن بعد ثلاثة أيام فقط قرفاً من الظروف التي رافقت تلك الجريمة.
في أواخر سنة 1982 وصلت الرفيقة "عزة" إلى لندن في زيارة إلى زوجتي التي كانت قد شاركت معها في نشاطات اجتماعية قبل مغادرتنا الوطن. لم تكن تداعيات الغزو الصهيوني للبنان قد هدأت بعد. وفي جلسة عائلية حميمة راجعنا سوياً بعض معاناتها خلال الغزو. قالت لنا في ذلك المساء بما يُشبه الاعتراف: "في إحدى ليالي القصف الصهيوني العنيف على بيروت، كنا في ملجأ مع بعض الرفقاء والرفيقات من بينهم الرفيق حبيب كيروز... إن القدوة التي مثلها الرفيق حبيب ساعدتني في إعادة تصويب رؤيتي لما يجري"!
لاحقاً انتقلت الرفيقة "عزة" مع زوجها الفنان والشاعر الرفيق محمد حماده للإقامة في لندن. الزمالة المهنية والعلاقة الحزبية توجتهما وشائج عائلية خصوصاً مع ولادة كرمة حمادة وربى أصفهاني بفارق شهر واحد بينهما. وعلى أهمية هذه الروابط الخاصة التي استمرت حتى بعد عودة عائلة حمادة إلى الوطن، فقد حرصتُ دائماً على أن أستمع إلى رأي "عزة" بما أكتب. صريحة في تقييمها، دقيقة في نظرتها، ومدركة لنبض الناس في حياتهم العامة.
شكل رحيل الرفيق محمد جرحاً لم يندمل في قلب الرفيقة مي. هجرتْ الكتابة، لكنها لم تتخلَ عن هاجسها الدائم بالعمل الاجتماعي في الأوساط الشعبية المسحوقة، وفي مخيمات "اللاجئين" على وجه التحديد. هناك كانت تجد نفسها، وتعبّر عن إيمانها، وتمارس عقيدتها.
أنهكها التعب خلال السنتين الماضيتين، وأضاف وباء الكورونا ثقلاً ضاغطاً عليها لأنه منعها من الاختلاط بالناس. لا شك في أنها خبأت في أعماقها حزناً وجودياً وهي تتابع قرار ابنتها وحفيديها الانتقال إلى قبرص للعمل بسبب تردي الأوضاع في لبنان.
أغمضت "مي ـ عزة" عينيها للمرة الأخيرة على رؤى راسخة في الوجدان. وهكذا يرحل أحباؤنا إلى الراحة الأبدية... ويتركون لنا غصة الذكرى وأوجاع الفراق!
|