بكل مشاعر "الأسف الشديد"، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس فشل الجولة الأخيرة من مفاوضات "إعادة توحيد جزيرة قبرص" التي يخضع القسم الشمالي منها للإحتلال التركي منذ سنة 1974. وجاء هذا الفشل بعد أسبوع من المساومات الشاقة بين الطرفين القبرصيين التركي واليوناني، بمشاركة الدول الضامنة: تركيا واليونان وبريطانيا... وتحت رعاية الأمم المتحدة.
ربما كان غوتيريس وحيداً في تفاؤله بإمكان تحقيق خرق ديبلوماسي في مساعيه "التوحيدية"، خصوصاً وأنه لم يمر على توليه منصب الأمانة العامة للأمم المتحدة سوى أشهر قليلة، وهو بأمسّ الحاجة إلى "إنجاز" ما طالما أن القضايا الأخرى الملتهبة حول العالم تقع خارج قدرة المنظمة الدولية على التدخل ناهيك عن التأثير الفاعل فيها.
ما هي الأسباب المعلنة لفشل هذه الجولة من المفاوضات؟ ولماذا سارع رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إلى التأكيد على أن أنقرة حريصة على "حماية مصالح القبارصة الأتراك" في إطار القانون الدولي؟ وهل هي بالفعل مصالح القبارصة الأتراك أم أنها مصالح تركيا في المجال الإقليمي تحديداً؟
الإجابة تعتمد على مواقع الأطراف المتفاوضة. لكن يمكننا تحديد مسألتين أساسيتين إنطلاقاً من التصريحات الصحافية، وكذلك مما تسرب إلى وسائل الإعلام:
المسألة الأولى تتعلق بانسحاب القوات التركية المتواجدة في الشطر الشمالي من الجزيرة، ويقدر عددها بحوالي ثلاثين ألف جندي.
والمسألة الثانية هي المطالبة بتخلي الدول الثلاث الضامنة عن "حقها" في التدخل بشؤون الجزيرة إذا ما "شعرت" بأن الأمور تستدعي مثل هذا التدخل المباشر.
طبعاً هناك مسائل أخرى عديدة مثل تداول السلطة دورياً بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، والتعديلات الدستورية لقيام نظام حكم فيدرالي، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، والتعويض على المهجّرين، وإعادة من يرغب منهم إلى دياره... وغيرها. والحقيقة أن كل هذه الأمور كانت قابلة للنقاش، ومن ثم التوصل إلى توافق معقول حولها، لولا أن الأطراف الجالسة إلى طاولة المفاوضات كانت تنظر عملياً إلى أبعد من الواقع الراهن لجزيرة متوسطية ذات موقع إستراتيجي حيوي في هذا الظرف الدولي الدقيق للغاية.
منذ البداية لم يتوجه الطرفان التركي (ومعه القبارصة الأتراك) واليوناني (ومعه القبارصة اليونانيون) إلى المفاوضات برغبة صادقة في التوصل إلى تسوية "عادلة" حول النقاط الأساسية. وحده المسكين غوتيريس كان يراهن ويتوقع ويأمل بحدوث معجزة ما. ذلك أن التطورات الأخيرة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، كانت تقف عائقاً أمام تقديم أي تنازلات من قبل أنقرة وأثينا اللتين تعاملتا مع الأزمة القبرصية من منظور مصالحهما القومية العليا أولاً وآخيراً.
تركيا وافقت في الماضي على إبداء نوع من المرونة في مفاوضات قبرص على أمل أن يساهم ذلك في تسريع مفاوضات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي (قبرص عضو في الاتحاد)، لكنها الآن لم تعد مستعجلة نظراً إلى أن الاتحاد نفسه ما عاد حريصاً على ضمها تحت جناحيه. يضاف إلى ذلك أن السياسة التوسعية التي تمارسها دولة رجب طيب أردوغان في سوريا والعراق تتطلب الحفاظ على التمركز العسكري في الجزيرة المقسمة... علماً أن القوات البريطانية تستخدم قواعدها هناك لشن غارات جوية على أهداف في العراق وسوريا.
لكن كل ذلك هو قمة جبل الجليد، وما خفي كان أعظم. إن الصراع الكامن الآن يتمحور حول الغاز المكتشف في شرقي المتوسط، وبالتالي حول أنابيب ستنقل ذلك الغاز (وربما النفط لاحقاً) إلى القارة الأوروبية المتعطشة لمصادر الطاقة، والراغبة في التخفيف من إدمانها على الغاز الروسي أولاً، والغاز الخليجي ثانياً.
خلال العقدين الماضيين تأكد وجود كميات هائلة من الغاز والنفط في شرقي المتوسط. وباشرت دول عدة عمليات الاستخراج والتسويق من بينها مصر وقبرص و"إسرائيل". ونظراً إلى تقاطع الحدود البحرية للدول المعنية، كان من الطبيعي أن تُعقد اتفاقات لتخطيط تلك الحدود بموجب القانون الدولي. وهكذا وقعت قبرص، وهي موضوع بحثنا، اتفاقاً مع مصر سنة 2003، ومع لبنان سنة 2007، ومع "إسرائيل" سنة 2010... وفي جميع هذه الحالات ظلت تركيا على رفضها الشديد.
وزاد الوضع تأزماً إقدام اليونان وقبرص و"إسرائيل" على التعاون في مد أنابيب الغاز لربط حقول الإنتاج القبرصية والإسرائيلية وصولاً إلى اليونان في ما عُرف بـ "مثلث الطاقة". ثم انضمت إيطاليا إلى هذا المثلث بهدف إيصال أنابيب الغاز إلى ميناء برينديزي الإيطالي. وكانت تركيا تراقب، وترفض، وتندد... من دون أن يكون بمقدورها وقف الصفقات الراهنة أو منع أي اتفاقات مستقبلية.
من هذا المنطلق يجب أن نقرأ الإصرار التركي على عدم تقديم تنازلات جوهرية في مفاوضات "توحيد قبرص"، لأن ذلك سيسحب من يدها ورقة الشطر التركي و"المصالح الحيوية" للقبارصة الأتراك الذين هم في حماية ثلاثين ألف جندي تركي، وكذلك "حق" التدخل الذي تتمتع به أنقرة. قد لا تتمكن تركيا من وقف كل مشاريع التعاون بين الدول الأوروبية المذكورة أعلاه و"إسرائيل"، غير أن باستطاعتها العرقلة "في إطار القوانين الدولية المرعية الإجراء".
لكن ماذا عن الدولتين السورية واللبنانية في ما يختص بحقول الغاز المؤكد وجودها في مياههما الإقليمية؟
الدولة السورية غارقة الآن في الصراع الدامي... في حين أن الطبقة السياسية اللبنانية لم تتفتق عبقريتها بعد عن طريقة سحرية لتطبيق المحاصصة الطائفية على مستوى استغلال الاكتشافات الغازية!
|