ربحت الحكومة العراقية المركزية الجولة الأولى من معركة تثبيت وحدة التراب العراقي، ومنع النزعات الفئوية الكردية من أن تتحول بفعل الأمر الواقع إلى حالة تقسيمية انفصالية معادية. وباتت بغداد في موقع القوة للعودة إلى طاولة المفاوضات مع القيادات المحلية في إقليم كردستان العراق. وهذه المفاوضات لن تكون سهلة على الإطلاق نظراً إلى المدى الذي وصلت إليه قيادة مسعود البرزاني في قضم صلاحيات السلطات المركزية على مدى أكثر من ربع قرن، أي منذ أن فرضت واشنطن الحماية العسكرية على شمال العراق في مطلع تسعينات القرن الماضي. من دون أن ننسى أيضاً أنقرة التي استنزفت نفط شمال العراق مقابل مئات الملايين الموزعة بين المتواطئين الأكراد والأتراك.
ولا شك في أن إجماع القوى المحلية والإقليمية والدولية على رفض خطوة البرزاني في إجراء الاستفتاء أعطى الحكومة العراقية تغطية كاملة لفرض شروطها على أربيل ميدانياً وسياسياً، بغض النظر عن لهجة التحدي والتصعيد التي تطلقها بعض القيادات الكردية بين حين وآخر في إطار شد العصب الداخلي وإخفاء التصدعات الحزبية الكردية التي تحمل نذر حرب أهلية بين الأكراد أنفسهم، كما حذر البرزاني بالذات.
غير أن حكومة بغداد سترتكب خطأ إستراتيجياً قاتلاً إذا ما جلست إلى طاولة المفاوضات وفق الاعتبارات الماضية، متجاهلة المتغيرات الحاصلة في المنطقة خصوصاً على صعيد وحدة الميدانين العراقي والشامي في محاربة الجماعات المتطرفة التكفيرية الإرهابية، وكذلك المجموعات الإنفصالية ذات الإرتباطات الإقليمية والدولية. فالدستور العراقي الذي تمت صياغته بإشراف المحتل الأميركي، ثم وافق عليه العراقيون في استفتاء 15 تشرين الأول سنة 2005، قد لا يكون هو المظلة المناسبة للتفاوض مع القيادات الكردية في هذه المرحلة تحديداً.
المتغيّر الأبرز الذي يُفترض بالحكومة العراقية أن تأخذه في الحسبان هو أن التغطية الأميركية والتركية لممارسات البرزاني قد تراجعت إلى حد بعيد (مؤقتاً ربماً؟)، وذلك لاعتبارات عدة سنعود إليها في كتابات لاحقة. إذ ما كان لقيادة إقليم كردستان أن تجمح في مواقفها التصعيدية على مدى السنوات الماضية لولا أن واشنطن وأنقرة منحتا الأكراد شريان الحياة المالية والعسكرية والسياسية. ولذلك على بغداد أن لا تثق كثيراً بالمواقف الإقليمية لأنها عُرضة للتغيرات المتسارعة حسب المصالح الخاصة لتلك الدول.
قامت العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان على أساس "الحكم الذاتي". ونحن نعرف أن هناك أشكالاً عدة لـ"الحكم الذاتي" في العالم، تتنوع وفق الاعتبارات المحلية لكل دولة. لكن غالبيتها العظمى تجعل شؤون السياسة الخارجية والدفاع الوطني والمالية العامة من صلاحيات السلطة المركزية حصراً. وربما تتنازل الحكومات المركزية، أحياناً، عن بعض الجوانب المالية مثل فرض ضرائب محلية. لكن السياسة الخارجية والدفاع الوطني خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه مهما كانت الاعتبارات. ومن المؤسف أن عقلية التردد التي غلبت على ممارسات الحكومات المتعاقبة في بغداد شجّعت البرزاني على انتهاج توجهات مناقضة لسياسات العراق الخارجية والدفاعية. ولعل العلاقة المكشوفة مع إسرئيل والتنسيق المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية والحدود المستباحة مع تركيا والعقود المحلية مع شركات النفط العالمية هي من الأمثلة البارزة على هذا الخرق المستمر.
لا أحد يرغب في مواجهة أمنية بين العراق ومواطنيه الأكراد، لأن الثمن الباهظ سيدفعه الجميع خصوصاً في مرحلة التصفية النهائية لفلول الإرهاب. لكن في الوقت نفسه ليس من مصلحة العراق أن تبقى حدود صلاحيات "الحكم الذاتي" غائمة بحيث يجري خرقها على حساب السيادة القومية ومصلحة الشعب عموماً. ولعل العراق الآن أمام فرصة ذهبية لإعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف، فالتعددية التي تحترم خصائص الجماعات في الوطن الواحد لا يمكن ان تعني قط التفرد في قرارات وإجراءات تنتقص من وحدة المجتمع ومصالحه القومية العليا. وهنا يكمن التحدي الأكبر أمام الحكومة العراقية بعد إنجازها الأول في إلغاء مفاعيل إستفتاء البرزاني.
|