من حق شعبنا في العراق أن يحتفل بالقضاء على إرهابيي "داعش" والمتحالفين معهم في الموصل. كما أن من حق شعبنا في الشام أن يستعد للاحتفال بتحرير الرقة وريفها من بقايا "داعش". وكذلك من حق شعبنا في لبنان أن يلتف حول الجيش والقوى المساندة له في حملتها المركزة على بؤر الإرهاب التكفيري في جرود عرسال ورأس بعلبك والقلمون.
هذا الحق طبيعي ومشروع لأن الثمن الذي دفعه شعبنا من دمه وعرقه وممتلكاته لا يقدر بثمن، ولأن الدمار النفسي والاجتماعي والعمراني سيستنزف قدراتنا وطاقاتنا على مدى عقود قادمة، ليقع العبء كله على عاتق الناس الطيبين الأوفياء. وقد أثبت شعبنا دائماً أنه معطاء إلى اقصى الحدود، وأن إرادة الحياة عنده أقوى وأعمق من سياسات الموت، وأنه قادر على النهوض من قلب المأساة إذا ما أتيحت له حرية المبادرة في بناء مستقبله ومستقبل أبنائه.
لكن الاحتفال بالنصر الذي يريد رجال الحكم أن يستثمروه إلى الدرجة القصوى يجب أن لا يحجب عنا ضرورة، بل وحتمية، طرح الأسئلة الصعبة التي من دون الإجابة الصريحة والشفافة عليها لا يمكن لأحد أن يمنع في المستقبل وقوع الموصل والرقة وعرسال وغيرها من مدننا مرة أخرى تحت السيطرة الوحشية لجماعات التطرف والتكفير.
ثمة أسباب محددة لسقوط الموصل والرقة وحلب وعرسال وغيرها بمثل تلك السهولة. فهناك من أهمل أو قصّر أو خان أو تواطأ أو باع واشترى على حساب وحدة أراضي الأمة وسيادة الدولة ومصالح الشعب العامة. وهناك من استنهض العصبيات المذهبية والعرقية لتحقيق مآربه الفئوية. وهناك أيضاً من استنجد بالخارج، فأباح حرمة أراضينا أمام كل طامع مغتصب.
هؤلاء كانوا يتفرجون على شعبنا الطيب المعطاء وهو ينوخ تحت قيود المتطرفين التكفيريين. وكذلك ظلوا يتفرجون بينما قنابل الدمار والموت تنهمر على رؤوس الناس لـ "تحريرهم من أسر الإرهابيين"، فدفعوا الثمن مرّتين: مرّة بتسليمهم سلعة مجانية إلى المحتلين، ومرّة أخرى بتحريرهم قتلاً وتدميراً من المحتلين أنفسهم! وها هم اليوم يعتلون المنابر ويحتلون شاشات التلفزيون ويجأرون بالصوت العالي "احتفاء" بنصر يحمل طعم الهزيمة للشعب برمته.
من حق شعبنا على كامل جغرافية الوطن أن يحتفل بالقضاء على أية جماعة تكفيرية إرهابية حيثما تواجدت. إلا أن حقه الأول والبديهي يكمن في محاسبة المؤسسات والقيادات والأحزاب والأفراد الذين ساهمت ممارساتهم الخاطئة أو المشبوهة في نشوء تلك التيارات التكفيرية ونموها ثم سيطرتها على مدن كبيرة ومحافظات شاسعة. أي أنهم يتحملون المسؤولية كاملة عن كوارث الموصل والرقة وحلب ودير الزور... وغيرها مما لا يُعد ولا يحصى.
إذا لم يتم وضع الأصبع في جرح الكارثة، وإذا فشلت القوى الحية في كشف الأخطاء واكتناه الدروس والعبر، وإذا تغاضت الجهات المعنية عن محاسبة الارتكابات والمرتكبين مهما علت مراتبهم، وإذا بقينا أسرى عقلية عفا الله عما مضى، فإن احتفال القيادات السياسية بـ"النصر" في أية بقعة تتحرر من الإرهاب التكفيري سيكون بمثابة تلك التي ينطبق عليها القول المأثور: "لا تزني ولا تتصدقي".
شعبنا لا يريد معارك تدميرية دائمة لـ"تحريره"، وإنما يريد في الأساس أن لا تتركه القيادات السياسية والحزبية غنيمة باردة لا حول لها ولا قوة أمام أعداء الداخل وأعداء الخارج. عندها فقط يكون للنصر طعم الانتصار فعلاً.
|