وقف الرجل الملتحي خلف المنصة، متوجهاً إلى حشد من الطلاب في إحدى جامعات لندن، ليتحدث عن مسائل تتعلق بأوضاع الجاليات المسلمة في بريطانيا تحديداً وأوروبا عموماً بعد سلسلة العمليات الإرهابية التي روّعت عواصم أوروبية عدة خلال السنوات القليلة الماضية. خصوصاً وأن تبني الإسلاميين التكفيريين مسؤولية تلك العمليات ساهم في تأجيج نزعة "الإسلاموفوبيا" (التخويف من الأسلام) التي سرعان ما تناغمت مع نزعات عنصرية أخرى كامنة في المجتمعات الغربية.
تناول الخطيب، وهو من أصول باكستانية، مروحة من الموضوعات ذات الصلة. لكن قسماً معيناً من محاضرته أثار اهتمامي، ثم استغرابي، لأنه يمكن أن يعطي نتائج قد تكون مناقضة للغاية الأساسية من وجوده في الحرم الجامعي. فإذا كان هدفه تبيان تقاليد السماحة والانفتاح وقبول الآخر في الدين الإسلامي، فإن النصوص التي استشهد بها وطريقة تأويله لها قدّمت للحضور مفهوماً مغايراً. وبما أن غالبية المستمعين كانوا من الشباب البريطاني المسلم، فإن الصورة التي ترسخت في أذهانهم هي صورة دين لا يقبل الآخر ولا يعترف بأن الأديان الأخرى تتساوى مع الإسلام على الأقل في عبادة الله الواحد الأحد.
بدأ المحاضر هذا القسم من كلامه بالآية القرآنية "إن الدين عند الله الإسلام" {آل عمران ـ 19}، وقد أوردها بالعربية ثم أعقبها بالترجمة الإنكليزية. وخلال الشرح والتفسير، عزز رأيه بآية أخرى هي: "ورضيت لكم الإسلام ديناً" {المائدة ـ 3}. وأخيراً ختم بالآية "ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" {آل عمران ـ 85}. ولا غرابة في أن الانطباع العام الذي خرج به الحضور يتمثل في أن أتباع الديانات الأخرى غير الدين الإسلامي هم "من الخاسرين"!
لم يكن هناك أي مجال للشك في أن المحاضر كان يقصد بـ"الإسلام" أولئك المؤمنين بالرسول العربي محمد، أي "المحمديين". وهو في ذلك يقلد المفسرين التقليديين السلفيين الذين يقصرون صفة "الإسلام" على دين واحد، في حين أن نصوصاً قرآنية عدة تؤكد أن المقصود بـ"الإسلام" كل الأديان السماوية التي ورد ذكرها في القرآن: "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" {آل عمران ـ 84}، "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين" {آل عمران ـ 67}.
وفي القرآن العديد من الآيات التي توسع دائرة "الإسلام" لتشمل كل المؤمنين بوحدانية الله حتى قبل نزول الرسالة على محمد: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل" {الحج ـ 78}. بل إن الله يدعو النبي نفسه لكي يكون من المسلمين وليس فقط لتأسيس دين الإسلام: "وأمرت أن أكون من المسلمين" {النمل ـ 91}. ولا يتناقض هذا مع آية "قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم" {الأنعام ـ 14} لأن الآية الثانية قد تعني الأولوية المعنوية وليس الأولوية الزمنية. ويتفق المفسرون والفقهاء على أن المقصود بكلمة الإسلام "سلم له واستسلم أي انقاد، فيكون هذا الدين انقياداً لأمر الله ونهيه وحكمه، أو على معنى تأدية الطاعة لله". ولذلك نجد في النص القرآني تفريقاً واضحاً بين من يؤمن فعلاً ومن يُعلن إسلامه نفاقاً: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" {الحجرات ـ 14}.
كان يمكن ان نضع كلام هذا المحاضر في خانة السهو لولا أنه يتضمن منطقاً يؤدي إلى تصنيف "الآخرين غير المحمديين" خارج المفهوم القرآني الشامل لـ"الإسلام". ذلك أن اجتزاء الآيات والترويج لها بمعزل عن السياق السردي من جهة، وبما يتجاهل كلياً ظروف المكان والزمان للبعثة المحمدية من جهة أخرى... كل هذا يصب في إطار النزعات الإلغائية التكفيرية التي يروج لها بعض جماعات الإسلام السياسي المتطرف. فالتكفيريون يسترجعون بعض الآيات (والأحاديث النبوية أيضاً) بشكل إنتقائي يهدف إلى تغطية تأويلات تبرر لهم تأجيج صراع دائم بين الذات المؤمنة والآخرين "الخاسرين"... وهنا مكمن جذور الإرهاب!
ربما لم يقصد المحاضر إيصال مستمعيه إلى مثل تلك الاتجاهات الإقصائية الخطيرة. لكن المنهج الذي استخدمه، وطريقة تفسيره للآيات في ما يتعلق بالعلاقة بين الأديان السماوية من وجهة نظر إسلامية، وتأكيده على أن صفة "الإسلام" تنطبق فقط على المؤمنين بالرسالة المحمدية... لا شك في أنها شوّشت أذهان المستمعين، وربما أنتجت مواقف تناقض الغاية من المحاضرة. إذ حتى لو وُجدت آيات قرآنية تحتمل التأويل الذي قدمه المحاضر، فإن تقييم الآخر غير المحمدي ليس من مسؤولية المسلمين: "فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ" { آل عمران ـ 20}. والمقصود بذلك أن الحكم على الناس من حيث الإيمان أو عدمه منوط بالآخرة لمن يؤمن باليوم الآخر.
وقد لفت صديق متخصص بالدراسات الإسلامية نظري، بعد استشارته في فكرة هذا المقال، إلى أن القرآن يضرب مثالاً آخر واضح الدلالة على أن الجنة ورضى الله ليسا حكراً على المحمديين المسلمين دون غيرهم، فقد جاء في سورة النساء (الآيات 123 ـ 125) "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً. ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً".
إن الجنة، من وجهة النظر القرآنية، ليست حكراً على أتباع هذا الرسول أو ذاك، وإنما هي مقررة لكل مؤمن "أسلم وجهه لله"... وفي هذه الحالة لا مجال لأي تأويلات غرضية غايتها التوظيف السياسي.
|