طرح عليّ رفيق عزيز قبل أيام تساؤلات حول عبارة الزعيم "كلنا مسلمون..." المتداولة بصيغ عدة، مستفسراً عن مناسبتها ومغزاها وموقعها في الفكر القومي الاجتماعي. ويبدو أن الحوار الذي تناول مقالات "جنون الخلود" مؤخراً، وبالتحديد مصدر عنوان "الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية" للقسم الثاني من السلسلة، أثار اهتمام الرفقاء وفتح باباً جديداً للمتابعة.
بعد عودته إلى الوطن سنة 1947، وفي ضوء تطورات المسألة الفلسطينية، وجّه الزعيم رسالة إلى القوميين الاجتماعيين والأمة السورية "في صدد وضع فلسطين وحالتها الحاضرة"، نشرتها جريدة "الشمس" في بيروت، تاريخ 12 تشرين الثاني 1947.(1) والنص الذي يقصده رفيقنا العزيز هو التالي: "ليس من سوري إلا وهو مسلم لرب العالمين. فاتقوا الله واتركوا تآويل الحزبيات الدينية العمياء. فقد جمعنا الإسلام: منا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، ومنا من أسلم لله بالحكمة. قد جمعنا الإسلام وأيّد كوننا أمة واحدة. فليس من عدو يقاتلنا في ديننا وحقّنا ووطننا غير اليهود، فلنكن أمة واحدة في قضيتنا الواحدة ونظامنا الواحد".
وبعد حوالي السنة تقريباً، قام سعاده بزيارة إلى فروع الحزب في الشمال السوري. وألقى في حلب كلمة سجلها الرفيق فاتح المدرّس جاء فيها: "أتركوا الحزبيات الدينية جانباً، وإننا في هذه البلاد كلنا مسلمون، وكل من أسلم لله فهو مسلم". وقد نُشرت المخطوطة لاحقاً في مجلة "فكر" العدد المزدوج 33 ـ 34 تاريخ أول كانون الأول 1979، ومعها نصوص أخرى سجّلها المدرّس في حينه.(2)
وقبل هاتين المناسبتين، استخدم سعاده العبارة ذاتها تقريباً منذ مطلع الأربعينات في الأرجنتين. فقد وجّه رسالة إلى جبران مسوح بتاريخ 8 تشرين الأول 1943 يشرح فيها طبيعة الاحتفال التأبيني الذي كان مقرراً للشهيد سعيد العاص: "... اتفقتم على إعطاء الاحتفال بذكرى فقيدنا القومي الاجتماعي العزيز صبغة دينية بدلاً من الصبغة القومية، فقرر الذين اجتمعوا في الدرجة الأولى إجراء الـحفلة في صالون "الجامعة الإسلامية" لأنهم رأوا "أنّ الـمرحوم كان مسلماً". نحن كلنا مسلمون وهذا قد أظهرته في مقالات "جنون الـخلود" وسأظهره بصورة قوية في أول مناسبة. ولكن الـمسائل الدينية شيء وعقيدتنا القومية الاجتماعية وقضيتنا الـمقدسة شيء آخر. من جهة نهضتنا، لم يكن فقيدنا محمدياً ولا نصرانياً، بل سورياً قومياً اجتماعياً. وبهذه الصفة السامية نشعر أننا فقدناه، وأننا نريد إحياء ذكره وعمله".(3)
الملاحظة الأولى التي يجب وضعها في الاعتبار تتعلق بالظروف التي أحاطت بهذه التصريحات أو البيانات. كانت القيادات الرجعية في البرازيل والأرجنتين توقد نيران الفتنة الدينية بين المهاجرين السوريين، فأقدم سعاده على تسفيه التعصب الديني من خلال التركيز على العناصر المشتركة في المسيحية والمحمدية. أما في الوطن بعد العودة من المغترب القسري، فقد خاطب سعاده الشعب السوري في واحدة من أدق المراحل المصيرية في تاريخ الأمة. المشروع الصهيوني في طريقه إلى "النجاح"، والقيادات الرسمية في سوريا والعالم العربي متواطئة، بل ومتآمرة على فلسطين والفلسطينيين. بينما يتعرض الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه لحملات اضطهاد متواصلة، بهدف منعهما من القيام بالدور القومي المطلوب في جنوب سوريا. كل ذلك تحت شعار "لا سلاح للقوميين"، في وقت كانت "منظمة الزوبعة" تقاتل بالقليل المتوافر لها حيثما وُجد قوميون اجتماعيون.
أما الملاحظة الثانية المهمة جداً فتتمثل بالجمهور الذي يخاطبه سعاده. في المقطع الأول يتوجه إلى السوريين عموماً فيقول "ليس من سوري". وفي خطاب حلب يستعمل عبارة: "إننا في هذه البلاد". إذن سعاده لا يتكلم عن الإسلام كدين منتشر عالمياً، ولا عن مليارات المسلمين الموزعين في أصقاع الأرض. إن ما يهمه على وجه التحديد هو مصير المجتمع السوري المُحاط بمخاطر وجودية معادية من الشمال (الأتراك) ومن الجنوب (اليهود). وفي أتون هذه المعارك المصيرية، يدرك سعاده، بوصفه زعيماً للأمة، أن عليه استنهاض الشعب بكل الوسائل والسبل المتاحة.
قلنا في مقالة سابقة (أكثر من عنوان وأقل من معضلة) إنه "ليس هناك عنصر أكثر تأثيراً في السوريين من الدين، وأشد خطراً على وحدة المجتمع من الحزبيات الدينية". وأمام هذا الواقع المريض الذي يفتك بحيوية الأمة، أراد سعاده أن يُخلص "العامل الديني" من عصبيته الحزبية المعادية للآخرين. طبعاً العقيدة القومية الاجتماعية التي يدعو لها الحزب تشكل الحل الأمثل. لكن الأوضاع الحرجة في سورية تستدعي تحريك كل القوى الكامنة وتوظيف كل الطاقات الفاعلة. وإذا كانت الرسالة المحمدية، أو أية رسالة أخرى، توفّر آلية معينة لنبذ "الحزبيات الدينية" ورص الصف القومي في مواجهة الأعداء، فلا بأس من توجيه تلك الآلية لخدمة وترسيخ "قضيتنا الواحدة ونظامنا الواحد". وفي هذه الوضعية، يُصبح لزاماً علينا أن ننظر إلى تلك العبارات بوصفها خطاباً سياسياً تعبوياً محدداً بزمان ومكان معيّنين.
حرص سعاده دائماً على تأكيد عدم حصول خلط بين الأمور الروحية للأفراد والعقيدة القومية الاجتماعية. يقول في رسالته إلى فخري معلوف بتاريخ 4 آذار 1945: "ليس في عقيدتنا القومية الاجتماعية ما يحرّم العقائد الدينية أو يحتجز حرية الفكر في أي أمر من الأمور الروحية والقضايا الفكرية، بشرط أن لا تطلب الهيمنة على عقيدتنا القومية الاجتماعية أو إفسادها أو تعطيل غايتها الأخيرة".(4) فإذا كانت هذه هي زاوية النظر عند سعاده، فمن المستبعد تماماً أن يتوقع من القوميين الاجتماعيين القبول بعبارة "كلنا مسلمون..." وكأنها "دعوة دينية". ولهذا نراه في النموذجين اللذين عرضناهما أعلاه يتوجه إلى السوريين عموماً وليس إلى القوميين الاجتماعيين خصيصاً.
وأجدُ من المناسب هنا توسيع إطار البحث للتطرق إلى جوانب ذات صلة بالتعاقد الذي جرى بين سعاده وكل شخص مقبل على العقيدة القومية الاجتماعية. نحن نتعاقد إفرادياً مع مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. وكما يحدث في كل العقود الثنائية، هناك طرفان متعاقدان وهناك موضوع للتعاقد:
* الطرف الأول هو الذي أنشأ العقيدة القومية الاجتماعية وأسّس الحزب للعمل في سبيلها، أي الزعيم.
* الطرف الثاني هو كل مواطن مُقبل على الدعوة، مؤمن بها عن قناعة وبكامل إرادته الحرة. ويكون حائزاً على شروط معينة.
* موضوع التعاقد هو القضية القومية ومصلحة الأمة السورية وبعث نهضة سورية قومية اجتماعية.
في مقدمة الدستور الحزبي جاءت الفقرة التالية حرفياً: "تأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي بموجب تعاقد بين الشارع صاحب الدعوة إلى القومية السورية الاجتماعية وبين المقبلين على الدعوة، على أن يكون واضع أسس النهضة السورية القومية الاجتماعية زعيم الحزب مدى حياته، وعلى أن يكون معتنقو دعوته ومبادئه أعضاء في الحزب يدافعون عن قضيته ويؤيدون الزعيم تأييداً مطلقاً في كل تشريعاته وإدارته الدستورية. ولهذا أدى زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي القسم الآتي...".(5)
ومثل أي عقد آخر، هناك موجبات قانونية والتزامات محددة من كلا الطرفين. إن إلتزام سعاده يعيّنه قسم الزعامة: "أنا أنطون سعاده أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أني أقف نفسي على أمتي السورية ووطني سورية عاملاً لحياتهما ورقيهما، وعلى أن أكون أميناً للمبادئ التي وضعتها وأصبحت تكّون قضية الحزب السوري القومي، ولغاية الحزب وأهدافه. وأن أتولى زعامة الحزب السوري القومي وأستعمل سلطة الزعامة وقوتها وصلاحياتها في سبيل فلاح الحزب وتحقيق قضيته، وأن لا أستعمل سلطة الزعامة إلا من أجل القضية القومية ومصلحة الأمة".(6)
إذن موضوع التعاقد هو المبادئ التي أصبحت القضية القومية الاجتماعية. وأعضاء الحزب ملزمون بموجب هذا التعاقد أن يؤيدوا "الزعيم تأييداً مطلقاً في كل تشريعاته وإدارته الدستورية". ومن ناحيته يلتزم سعاده باستعمال "سلطة الزعامة وقوتها وصلاحياتها في سبيل فلاح الحزب وتحقيق قضيته". هذا هو الإطار التعاقدي الذي يضبط العلاقة بين الجانبين، ويقوم على اعتناق المبادئ والعمل لتحقيقها. لكنه، كما قال سعاده في رسالته إلى فخري معلوف "لا يلزم أحداً من معتنقي عقيدتنا القومية الاجتماعية أن يكون على مذهب الزعيم في الدين أو في الله والوجود وما وراء المادة".(7) وينسحب هذا الموقف على مسائل أخرى غير الاعتقادات الدينية، إذ يؤكد سعاده في الرسالة ذاتها "إني لا أرغب في محو التنوع الفكري من تراثنا، بل أرغب في المحافظة عليه وتنميته لأني أرى أنه لازم لفلاحنا".
إلى جانب كونه منشيء العقيدة ومؤسس الحزب، فإن سعاده يمثل القدوة التي يتطلع إليها القوميون الاجتماعيون بتقدير وجداني خاص. لكن علينا أن لا نخلط بين التعاقد الملزم بأبعاده الدستورية، وبين القدوة التي تبقى تعبيراً شخصياً حتى ولو انتشرت على صعيد أوسع. وكذلك الأمر في بعض المسائل الثقافية الفكرية التي لا تمس جوهر القضية القومية، وبالتالي لا تخضع لأحكام التعاقد، فإن سعاده آمن منذ البداية بأهمية أن يعبّر أعضاء الحزب عن قدراتهم. فقد نقلت جريدة "الهدى" في عددها الصادر بتاريخ 6 شباط 1936 عن سعاده قوله في المحاكمة الأولى: "فالحزب، من حيث هو حزب، لا يمكنه أن يحمل طابع رئيسه في شخصية كل فرد من أفراده. لذلك يجمع عناصر متنوعة. ولا يمكن قتل هذا التنوع".(8)
تبرز ثقافة سعاده الموسوعية في الكم الهائل من كتاباته المختلفة، وتغطي شريحة واسعة من الموضوعات. ومع أن غالبيتها تهتم بالشأن القومي، إلا أن قسماً لا بأس به يتطرق إلى مسائل تحتمل أكثر من رأي. الشرح التفصيلي الدقيق حول الموسيقى في قصة "فاجعة حب" قد يجد من يراه بصورة مختلفة. ونظرة سعاده الإيجابية للدولة الأموية التي استقرت في سوريا، تواجه من يعتبر أن الخلفاء الأمويين استغلوا الانتماءات القبلية لترسيخ خلافتهم... وغير ذلك كثير. هذه الموضوعات بطبيعتها تحتمل آراء عدة نابعة من الاجتهاد تحت سقف المبادئ. ولطالما حثّ سعاده الرفقاء على المبادرة، وعدم الاكتفاء بما يصدر عنه فقط: "الحزب من حيث هو مجموع أفراد تتنوع مزاياهم ومواهبهم، لا يمكن تحديد تفكير كل فرد من أعضائه بطريقة تفكير زعيمه في جميع المسائل والقضايا الجزئية أو التفصيلية، أي أنه لا يمكن جعل تفكير كل فرد من أفراده نسخة طبق الأصل عن تفكير زعيمه".(9)
القدوة لا تعني الانقياد... القدوة هي القيادة!
الهوامش:
1 ـ "الأعمال الكاملة، المجلد السابع"، صفحة 367 – 368.
2 ـ المرجع السابق، المجلد الثامن، صفحة 424.
3 ـ المرجع السابق، المجلد العاشر، صفحة 364.
4 ـ جان دايه، "أنطون سعاده وحرية المعتقد". صفحة 25.
5 ـ "الأعمال الكاملة، المجلد الثاني"، صفحة 77.
6 ـ المرجع السابق، صفحة 1.
7 ـ جان دايه، مرجع سابق، صفحة 28.
8 ـ المرجع السابق، صفحة 10.
9 ـ "الأعمال الكاملة، المجلد السابع"، صفحة 19.
|