عودة إلى الماضي القريب: سنة 1999 توجه الناخبون النمسويون إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في مجلس النواب. يومها حلّ "حزب الحرية" اليميني العنصري بقيادة يورغ هايدر (1950 ـ 2008) في المرتبة الثانية بعد "الحزب الديموقراطي الاجتماعي". وعندما فشل هذا الأخير في تأليف حكومة إئتلافية، إتفق الحزب الذي حلّ في المرتبة الثالثة، "حزب الشعب"، مع "حزب الحرية" على تشكيل الحكومة برئاسة وولفغانغ شوسل من "حزب الشعب" على الرغم من أن المنصب كان من "حق" هايدر.
ونظراً إلى السياسات العنصرية المتطرفة التي روّج لها "حزب الحرية" خلال الانتخابات، قرر قادة الاتحاد الأوروبي (المكوّن يومها من أربع عشرة دولة فقط) فرض مقاطعة شاملة على الحكومة النمسوية، ما أجبر هايدر في شباط سنة 2000 على الاستقالة من رئاسة الحزب ولو صورياً. ومع ذلك، استمرت المقاطعة الأوروبية لغاية أيلول سنة 2000. علماً بأن تلك الحكومة، بمكوناتها اليمينية استمرت لمدة عامين كاملين بعد انتهاء المقاطعة الأوروبية.
قفزة إلى الحاضر: في 15 تشرين الأول سنة 2017، توجه الناخبون النمسويون إلى صناديق الاقتراع، وأعطوا أصواتهم بشكل واسع للأحزاب اليمينية المتطرفة: "حزب الشعب" حصد 62 مقعداً، يليه "الحزب الديموقراطي الاجتماعي" بـ 52 مقعداً، ثم "حزب الحرية" بـ 51 مقعداً. رئيس "حزب الشعب" سيباستان كورز خاض المعركة ببرنامج يميني متطرف معادٍ للهجرة، وقريب جداً من برنامج "حزب الحرية" الذي يصفه بعض المراقبين بأنه ذو توجهات نازية خصوصاً في ما يتعلق بمصير المهاجرين في النمسا. ولذلك لم يكن صعباً قط التوصل إلى صيغة حكومة إئتلافية في 18 كانون الأول سنة 2017 برئاسة كروز، على أن يتولى هيربرت كيكل أحد مسؤولي "حزب الحرية" منصب وزارة الداخلية... المعنية بالهجرة والمهاجرين!
حزبان يمينيان يقودان النمسا، أحدهما متهم بالنزعة العنصرية النازية اللاسامية، ومع ذلك لم يصدر عن الاتحاد الأوروبي المكون من 28 دولة (بريطانيا لم تخرج رسمياً بعد) سوى بعض التصريحات الخجولة التي "تلفت نظر" الحكومة النمسوية إلى واجباتها ومسؤولياتها. طبعاً قرأنا العديد من المقالات في الصحف الأوروبية، بعضها ينتقد وبعضها يرحب بصمت، وذلك حسب التوجهات السياسية والإيديولوجية لكل وسيلة إعلامية على حدا. لكن لا أحد، لا في الحكومات ولا في الإعلام، لوّح بورقة المقاطعة التي حاصرت حكومة النمسا سنة 2000...
العبرة: بماذا نفسر هذه المواقف "المتناقضة"؟
الحقيقة أننا لا نجد تناقضاً. فالمشاعر العنصرية، بشكل أو بآخر، موجودة دائماً في كل المجتمعات. لكن التشريعات القانونية والسياسات الحكومية هي التي تتحكم بمسألة بروزها وانتشارها، وتمنع تحولها إلى تيار شعبي يهدد السلم الأهلي في المجتمع. أوروبا التسعينات كانت قد خرجت للتو من "معركة" الانتصار النهائي في الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. ولذلك حرصت بكل ما امتلكت من أدوات اجتماعية وسياسية واقتصادية على إظهار الوجه الليبرالي المتسامح كنقيض لـ "سلطوية الأنظمة الشمولية" كما مثلتها منظومة الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه.
لكن المشاعر العنصرية ظلت كامنة كالجمر تحت الرماد، في أوروبا كما في غيرها من المناطق. ولم تكن تحتاج ـ كي تتأجج من جديد ـ إلا لتغيّر طارئ يهز قواعد الاستقرار الاقتصادي. وهذا ما حدث سنة 2008 مع اندلاع الأزمة المالية العالمية، ما أثر على البنى السياسية في المجتمعات الرأسمالية أكثر من غيرها. فتنامت على هوامش الأحزاب التقليدية نزعات شعبوية لعبت على الوتر العنصري الإلغائي، وراحت تحقق نتائج متواضعة تصاعدت تدريجياً بحيث باتت تنافس وتهدد النظام السياسي الذي استقر في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً نمو مشاعر "الإسلاموفوبيا"، خصوصاً بعد طروحات "صراع الحضارات" للمفكر الأميركي صامويل هانتغنتون، وفي أعقاب العمليات الإرهابية على مستوى العالم التي نفذها تنظيم "القاعدة" وغيره من جماعات الإسلام السياسي التكفيرية. ومع تفجّر الأوضاع في العالم العربي، ونشوء أزمة الهجرة نحو الشواطئ الأوروبية، تبدّل الخطاب السياسي العام نحو مزيد من التشدد اليميني. وفي خضم هذه الأجواء، حققت الأحزاب والحركات الشعبوية العنصرية انتصارات ملحوظة في معظم الدول الأوروبية، ما أحرج القيادات التقليدية وأجبرها على أن تتبنى شيئاً فشيئاً مفردات الخطاب الشعبوي بكل ما فيه من تفكير عنصري.
وهكذا وجدت الحكومات الأوروبية نفسها أمام واقع جديد يتمثل في مسألتين:
الأولى، تحديات داخلية يقودها اليمين الشعبوي العنصري الذي بات قادراً على التغلغل في قطاعات شعبية واسعة، وبالتالي سحب المؤيدين من قلب القواعد الانتخابية للأحزاب التقليدية.
الثانية: قدرة بعض الأحزاب اليمينية العنصرية على الفوز في انتخابات ديموقراطية، كما حدث في النمسا، وتشكيل حكومة تقدم برامج بديلة تدغدغ غرائز رفض الآخر... حتى لو كانت متناقضة مع "مبدئيات" الاتحاد الأوروبي.
دول الاتحاد الأوروبي التي قاطعت حكومة النمسا اليمينية العنصرية سنة 2000، عاجزة عن اتخاذ الخطوة ذاتها سنة 2018 مع حكومة هي أشد يمينية وعنصرية من أية حكومة أخرى سابقة. والسبب الأساسي هذه المرة هو أن السياسات العامة لكل الدول الأوروبية تتجه نحو التشدد اليميني بخطوات لا قدرة لأحد على لجمها الآن!
|