تحت هذا العنوان دأبت منذ سنوات على نشر مقطوعات وجدانية.
هنا كلمة وجدت مفيداً أن أعمّمها بعد مضيّ سنوات على نشرها في سبعينات القرن الماضي في إحدى الصحف المهجرية الصادرة في بيونس آيرس(1) وقد لاقت استحساناً من قبل عدد من شعراء المهجر.
*
-1-
هل تعرف يا صاحبي لماذا أنا عائد إلى الوطن؟.. بالطبع تستغرب وتتعجب وقد تتهمني بالجنون..
لأ .. ما أنا بمجنون ولا غبي.
صحيح أنني أملك هنا المنازل ومصنع النسيج، وعائلتي تعيش بهناء، كما أبنائي، وصحيح أيضاً أنني هنا منذ خمس وعشرين سنة، وأن الأوضاع الاقتصادية في الوطن ليست على ما يرام.. كل هذا صحيح يا صاحبي، ومع ذلك أنا عائد.
مجنون؟ مهلك قليلاً سأفسّر لك لماذا أعود.. اجلس أرجوك، فقصتي طويلة، ولن تنتهي بدقائق.
أنت تعرف أنني من قرية كفربعل الواقعة قرب الحدود مع إسرائيل!
- بالطبع.
- هذه القرية يا صاحبي كانت تضم ثلاثة آلاف نسمة.. ما زلت أذكر عندما كنت أذهب إلى العين مع الصبايا، وعندما كنا نرقص الدبكة في ساحة الضيعة في المناسبات، كذلك ما زلت إلى اليوم أتنشق هواء السنديانة العتيقة قرب باب منزلنا العتيق.
كنا صغاراً نزقزق كالعصافير.. نركض كالفراشات، وكانت أزقة قريتنا تردد صياحنا وغناءنا.. بينما أصوات أجران الكبة تتعالى مع صوت جرس الكنيسة وصوت المؤذن.
قريتنا يا صاحبي أحببتها. أتلومني. أحببت ساحتها الرملية.. أزقتها المغبرّة.. سنديانتها.
لم تعجبني مدينة في العالم كما أعجبتني كفربعل.. ساحتها أكبر من الكونكورد.. أزقتها أكبر من الشانزليزيه.. وتأكد يا صاحبي أن سنديانتها أضخم من غابات الأمازون.
أأبالغ؟
لا يا صاحبي.. هي في نظري هكذا. هكذا كانت كفربعل.. لن أخبرك عن سهرات الطرنيب، عن مباريات رفع الجرن، عن فروسية أبناء قريتنا، عن المدرسة العتيقة، عن الصبايا الجميلات، لن أخبرك عن ذلك، لأنني إن بدأت فلن أنتهي من قصتي قبل أسابيع.
هل تعلم ماذا حدث لكفربعل يا صاحبي؟ كفربعل اليوم مقفرة لم يبق فيها إلا الشيوخ يا صاحبي.. الصبايا هجرتها.. الشباب هجروها.. حتى العصافير لم تعد تغطّ على السنديانة، والفراشات.. آه.. الفراشات أيضاً، هاجرت من كفربعل.
لا لم تأخذها "إسرائيل".
كفربعل هاجرت.. كفربعل أصبحت هنا، هناك، هنالك.
في كل مكان كفربعل.. كان عمري تسعة عشر عاماً عندما غادرت كفربعل.
أمي العجوز، قلت لها أنني سأعود بعد خمس سنوات.. ما هي الخمس سنوات يا والدتي؟ أجمع المال وأعود.. لم يفد رجاؤها، لم تؤثر دموعها. دموع أمي يا صاحبي ما زالت تتساقط حتى اليوم على وجنتي.
كل ليلة أسمع كلمتها الأخيرة: عد يا ولدي..
-2-
غادرت كفربعل.. وغادرها الكثيرون.. إلى البرازيل غادروا.. إلى كندا غادروا.. إلى أستراليا غادروا..
في مصنع النسيج يعمل 65 شاباً من كفربعل.. كنت أطلبهم للعمل.. شباب أقوياء، مخلصون، لا يغشون ابن قريتهم، أطلبهم ويسافرون.. وكفربعل تصغر وتتلاشى وتنزل في الأرض.. أربعون عائلة فقط بقيت في كفربعل.. أربعون عائلة تنتظر دورها للسفر.. وتبقى كفربعل للوحوش.. للحشرات.. لإسرائيل الرابضة أمامها.
لا تهز رأسك أسفاً يا صاحبي.. سأعود لأعمّر كفربعل، لأعيد الفراشات والعصافير والدبكة وجرن الكبة وجرس الكنيسة وصوت المؤذّن.. هل تعلم يا صاحبي أن مصنعاً أبنيه في كفربعل يعيد إليها شبابها وصباياها.. أجل يا صاحبي سأبنيه في كفر بعل.. سأشيد مزرعة، ومدرسة، وأزرع التلة..
لا تضحك أرجوك!!
من لم يعد يتنشّق هواء السنديانة لا يشعر شعوري!.. قلت لك إنّ صوت جرن الكبة ما زال يرنّ في أذني، وصوت أمي ما زال يتردّد في خاطري... تسألني عن أولادي يا صاحبي؟ سأعيدهم.. نعم، سأعيدهم... ليتعلّموا لغتنا، لينشأوا كما نشأت.. ليعمّروا قريتنا.
هل تريدهم يا صاحبي أن يضيعوا هنا؟ أما سمعت يا صاحبي باليهود؟ أما علمت أنهم يذهبون إلى بلادنا بينما نحن نهجرها؟
هل تريد أن نسلّمهم أرضنا؟ هل تريد أن نرحل بينما هم يأتون؟
كفربعل هي قريتنا يا صاحبي.. فيها ماتت والدتي ووالدي وأهلي وأقربائي، سأعود لأضع زنبقة على قبر أمي ولأقول لها: سامحيني يا أمي.. لقد كذبت عليك.. ولكنني أخيراً عدت يا أمي!
ما بك سكتّ؟ هل اقتنعت أخيراً يا صاحبي؟
هل ستعود معي؟!..
هوامش:
(1) لم أعد أملك نسخة من الصحيفة، ربما جريدة "السلام".
|