يبدو أنّ انتظار الرئيس رجب طيب أردوغان، لإعادة ترميم العلاقة مع واشنطن، لن يطول، فهو لم ينتظر نقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لما يعتبره، الأخير، إخفاقات باراك أوباما في المنطقة، لا سيما في العراق وسورية وتركيزه على الفراغ الذي أوجد «داعش» واستغلال الإدارة الأميركية له في سورية. بل هو أرسل وفدا الى واشنطن، منذ اليوم الأول لفوز ترامب، من أجل التحرك باتجاه تحسين العلاقة مع الرئيس المنتخب والمطالبة بـ«إنصاف» تركيا، عبر تسليمها محمد فتح الله غولن، متهما ادارة الرئيس أوباما، بدعم الانقلاب الفاشل في 15 تموز من العام المنصرم، أو على الأقلّ، السكوت عنه وعدم التعاون. مع أن العلاقة المتعثرة بين أردوغان وأوباما لها اسباب عديدة، منها ما يعود الى نهاية العام 2013 بعد إعراض أوباما عن التدخل المباشر في سورية، لإسقاط النظام، ما سمح لروسيا بالتدخل السياسي في مرحلة أولى والعسكري في فترة لاحقة.
يراهن أردوغان على الإدارة الأميركية الجديدة. كذلك، تفعل المعارضة التركية. لكن لكلّ أسبابه، فالمعارضة تريد استعادة قوة العلاقة مع المحور الغربي، الذي تنتمي اليه. وهي لا تبدو متحمّسة للعلاقة مع روسيا، الا مصلحياً، أيّ اقتصادياً. وترى أنّ تعيمق العلاقة مع روسيا، يشجع أردوغان على المضيّ في تعزيز الاتوقراطية التي ينتهج، كون روسيا لا تأبه لشكل الأنظمة التي تدعم ومن مصلحتها التقرّب من تركيا أردوغان اليوم، في ظلّ أزمتها مع أوروبا ومع الحلف الاطلسي. أما الحكومة التركية فهي وضعت هدفين اساسيين لاستعادة العلاقة المتينة مع واشنطن، هما تحديدا: محاربة ارهاب حزب العمال الكردستاني، المتمثل بجناحه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي وقوته العسكرية وحدات الحماية الكردية وإرهاب «داعش»، إلى جانب ضرورة تسليمها غولن، الذي يقبع في بنسلفانيا. وهي أيضاً، تستغلّ تصريحات الرئيس الأميركي الجديد حول الابتعاد عن اوروبا. وبذلك، لن تكون مجبرة على تلبية شروط الاتحاد الاوروبي، بما يخص قانون الإرهاب، أو إطلاق سراح الموقوفين من صحافيين ومثقفين.
جاهر ترامب بضرورة قتال «داعش» بمساعدة روسيا، لكنه لم يتطرق الى الموضوع الكردي. بل هو أبدى إعجاباً بجسارة المقاتلات الكرديات. وركز على ضرورة استعادة ألق العلاقة الأميركية التركية. هذا ما عبّر عنه وزير الخارجية ريكس تيلرسون، الذي اختاره ترامب، خلال شهادة أدلى بها في 11 كانون الثاني، أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، في ردّه على أسئلة بشأن سورية، قائلا: إنّ على الولايات المتحدة اعادة التواصل مع الرئيس أردوغان في تركيا، لانه في غياب القيادة الأميركية و«بسبب غضب أردوغان، اتجه الى روسيا»…
بانتظار تبلور اللبنات السياسية التي ستضعها الادارة الأميركية الجديدة، قامت كلّ من روسيا وتركيا، بتوقيع اتفاق يحدّد عدداً من الآليات لتنسيق ضربات القوات الجوية في سورية، على أهداف إرهابية، كجزء من الاتفاقات التي أدّت الى تفاهمات ومنها عقد مؤتمر أستانة بين المعارضة المسلحة والنظام. وفيما تستمرّ تركيا في حربها ضدّ حزب العمال الكردستاني، أتت تصريحات يلدريم والعبادي في بغداد، لتظهر استعداد البلدين للتعاون بشكل وثيق، ضدّ إرهاب «الدولة الإسلامية» وحزب العمال الكردستاني، ما يمكن اعتباره حجر الزاوية في العلاقة الجديدة بين أنقرة وبغداد، لا سيما أنّ العبادي شدّد في تصريحه، على أنّ العراق لن يؤيد المجموعة التي تستخدم الأراضي العراقية «لمهاجمة الجيران. وأنّ الدستور العراقي لا يسمح بذلك».
أدركت تركيا أنّ تزايد التوتر مع العراق، يضرّ بمصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية. وكانت انقرة قد أرسلت «وفد المصالحة» إلى بغداد، في منتصف تشرين الأول الماضي، لإنضاج الاتصالات الدبلوماسية وراء الكواليس. وأصبح واضحاً منذ ذلك الحين، أنّ النقطة التي يمكن لأردوغان مناقشتها، هي التعاون في مكافحة الإرهاب والحاجة لتحسين العلاقات الثنائية.
يسعى أردوغان في هذا الوقت، الى تمكين وضعه الداخلي ومأسسة دستور جديد، يمكن اعتباره اللبنة الأساسية في تغيير الدولة الكمالية والانتقال الى تركيا الجديدة. فيوم التاسع من كانون الثاني، يعتبر يوماً تاريخياً في تركيا. وهو بدء البرلمان مناقشة حزمة التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، التي تحوّل نظام الحكم في البلاد إلى الرئاسة التنفيذية.
يعتقد أن تتمّ الموافقة على التعديلات الدستورية من قبل البرلمان، مع أكثر من 340 صوتاً. بفارق واضح أعلى من الحدّ الأدنى 330 اللازمة لنقلهم الى استفتاء. ويقول منتقدو النظام المقترح، إنه يلغي مبدأ الفصل بين السلطات ويضعف دور البرلمان ويعطي الرئيس صلاحيات واسعة، تعتبر من وظائف السلطات التشريعية، والقضائية والتنفيذية.
لا شك بأنّ الموافقة على التعديلات المقترحة، ستغيّر الوضع في تركيا من «دولة دستورية» إلى «دولة ذات دستور». لذلك، ترى المعارضة أنه يجب التشديد على أنّ تنفيذ النظام الرئاسي، يتطلب وضوحاً في عمل مبدأ الفصل بين السلطات. وإذا لم يتمّ ضمان هذا الأمر، فذلك سيؤدي إلى الحكم الشمولي.
أعطى كلّ من حزب العدالة والتنمية، الحاكم وحزب الحركة القومية، معاً، الدعم الكامل لحزمة من التعديلات الدستوية، التي تنص على تركيز كلّ السلطة التنفيذية في يد الرئيس، الذي سيكون قادراً على الحفاظ على لقبه كرئيس للحزب وتعيين غالبية قضاة المحكمة الدستورية وإصدار المراسيم. وسيكون قادراً على إلغاء البرلمان وتجديد الانتخابات.
عملت قيادة حزب الحركة القومية، جاهدة لتأمين وحدة صفوفها ضدّ جهود المعارضة الرئيسية، لحزب الشعب الجمهوري، للتأثير على النواب الساخطين من حزبي الحركة القومية وحزب العدالة والتنمية.
تاتي عملية التصويت على التعديلات الدستورية، في ظروف سياسية واجتماعية خطيرة، في مدلولاتها. فتركيا تعيش حالة الطوارئ منذ 20 تموز 2016، أيّ منذ محاولة الانقلاب الفاشل، الذي اتهمت به جماعة فتح الله غولن. وتمّ اتخاذ إجراءات عميقة على صعيد تغيير بنية الجيش والشرطة والقوات الأمنية وتحويل البنية الأساسية الى موالية للحكومة وحزبها الحاكم. في ظلّ مطاردة وسجن منتقدي الحكومة في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية واعتقال العشرات من الصحافيين والأكاديميين والناشطين، الذين تجري محاكمتهم أو ترهيبهم. ويتمّ تكثيف الضغط على وسائل الإعلام الرئيسية، من خلال وسائل مختلفة. في حين أنّ أجهزة الدعاية المؤيدة للحكومة، لا تتردّد في مواصلة حملات تشويه ضدّ كلّ أنواع المعارضة.
تتعرّض حرية التعبير لقيود خطيرة. ويمنع الحق في التجمّع والاحتجاج، من خلال التظاهرات السلمية، حيث جرى منع 50 منظمة من منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك نقابة المحامين، في تركيا، من الحق في الاحتجاج على ما يجري في البرلمان، عن طريق استخدام قوة الشرطة. ومن المرجح ألا تسمح الحكومة بمحاولات الاحتجاج في الأيام المقبلة، مع استمرار البرلمان بالمناقشة والتصويت على كلّ مادة، حتى أواخر كانون الثاني. فيما تقوم وسائل الإعلام الموالية للحكومة، بالهجوم الشرس على رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، بسبب دعوته الجمهور إلى الوقوف ضد التغيير الدستوري، الأكثر أهمية في تاريخ تركيا والذي لا يتمّ في بيئة حرة. وما استمرار حالة الطوارئ الا للمساهمة في منع الجماعات المعارضة من التحرك بحرية، للتعبير عن رفضها خطوة تعديل الدستور واقرار النظام الرئاسي.
لا تبدو خطوة محاولة تغيير النظام السياسي مبشرة بالاستقرار، في ظلّ استمرار الهجمات الإرهابية والاستقطاب السياسي الحادّ وسجن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح ديمرتاش مع عشرة نواب آخرين، من القيادات المعارضة للتعديل والانخفاض في العملة التركية مقابل الدولار الأميركي واليورو.
لا قوة تقف في وجه أردوغان، فهو ينفذ مشروعه الاساسي. ولم يساهم الانقلاب في 15 تموز الا في تثبيت مشروعه وتنفيذه عملياً، في ظلّ انقسامات حادة وتصدّع في البنية وخلل أمني خطير.
|