خروج الولايات المتحدة من «شرق الفرات» في سورية يؤثر على تحركات موسكو ولا يزعجها الأمر. فالقرار الأميركي المفاجئ للانسحاب من سورية خلق الكثير من عدم اليقين، كانت روسيا تنتظر لترى كيف سيتمّ تنفيذ هذا الانسحاب ولا يزال الكثيرون في موسكو يعتقدون أنّ الجيش الأميركي، القوات الخاصة، أو عملاء وكالة الاستخبارات المركزية أو المستشارين العسكريين سيبقون في المنطقة بعد الانسحاب لإبقاء إيران تحت المراقبة على الحدود السورية العراقية.
مقتل الجنود الأميركيين في هجوم انتحاري في مدينة منبج السورية التي يسيطر عليها الأكراد وإعلان داعش عن مسؤوليته جاء ليحرج الرئيس الأميركي ويزيد من تعقيد النقاش داخل إدارة ترامب بشأن توقيت الخطط لسحب 2200 جندي أميركي من سورية. اتجهت الانظار الى الرئيس الأميركي فهو تعهد بخفض وجود القوات الأميركية في الخارج، لكن سياسته تجاه سورية أثارت البنتاغون ووزارة الخارجية وكذلك الحلفاء في الكونغرس. يحثّ الهجوم ترامب على التراجع السريع عن خطته فداعش لا يزال فاعلاً أو لسحب قواته سريعاً. ويأتي في الوقت الذي تستعدّ فيه تركيا لشنّ هجوم واسع النطاق لاستعادة منبج من وحدات حماية الشعب الكردية السورية المدعومة من الولايات المتحدة والتي تعتبرها أنقرة إرهابية ويقدّم المبرّرات التي يحتاجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إذا حصل على ضوء أخضر ضمني من الرئيس الأميركي الا انّ قرار الانسحاب لا يعني أنّ القوات الأميركية ستغادر البلاد بالكامل. رئيس أركان الجيش مارك ميللي، صرح أنه لا يزال لديها جيوب صغيرة من مقاتلي داعش وهي عازمة على إنهاء ذلك.
قوات سورية الديمقراطية التي تفتقر إلى الردع، غير مؤهلة لملء الفراغ، وبطبيعة الحال فإنّ روسيا هي المؤهّل لذلك، ثم الدولة السورية، شرق الفرات هي أرض سورية، لكن الرئيس رجب طيب أردوغان الذي عبّر في مقاله لـ «نيويورك تايمز» في 7 كانون الثاني انه يمكن لتركيا إنجاز المهمة، اكد أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تتعاون مع الشركاء المناسبين أثناء الانسحاب، وزعم أنّ تركيا هي الدولة الوحيدة التي تملك القوة والتصميم لإتمام المهمة.
جوهر عرض أنقرة الأول هو تصفية وحدات حماية الشعب، الهدف الثاني هو وضع المنطقة بأكملها المشار إليها باسم «شرق الفرات» تحت التأثير التركي. ومع إضافة منطقتي عفرين والباب، اللتين تسيطر عليهما تركيا عبر وكلاء من «الجيش الحر»، تريد أنقرة إبقاء الجيش السوري بعيداً عن حدودها. ومع ذلك، حدّدت مقالة «نيويورك تايمز» «منطقة نفوذ» طموحة نوعاً ما تتجاوز «المنطقة العازلة».
الحكومة التركية تواجه صعوبة في التكيّف مع الحقائق المتغيّرة بسرعة في المنطقة. فالمقال كُتب كما لو كانت الدولة السورية التي يقودها الرئيس بشار الأسد غير موجودة، وهذه لعبة خطيرة بالنسبة لتركيا. هل يستطيع أردوغان النجاة من أحلامه العثمانية المتقلصة؟ إذا تمّ الترحيب بالرئيس بشار الأسد عربياً، كما يتوقع كثيرون، فإنه سيكون المسمار الأخير في نعش سياسة أنقرة في سورية، التي تعاني من سوء التقدير والافتراضات الخاطئة والتوقعات الطموحة من البداية.
إلا أنّ ترامب الذي أثار ضجة من خلال تغريدة التهديد «بتدمير تركيا اقتصادياً إذا ضربت الأكراد» في سورية. أعطى أنقرة في التغريدات نفسها، الضوء الأخضر لإقامة منطقة عازلة بطول 30 كلم داخل سورية على طول حدودها لكن الخطة التركية تتجاوز إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود. لذلك من غير الواقعي توقع التوصل إلى اتفاق بين الجانبين في أيّ وقت قريب من شأنه أن يمنح أنقرة دوراً مكثفاً في شرق الفرات. لأنّ أزمة الثقة بين البلدين تعمّقت وتراكمت في السنوات الأخيرة. تركيا لا تستطيع أن تنفذ أيّ خطة شاملة بالاتفاق مع الولايات المتحدة. وسيكون من الصعوبة بمكان على تركيا أن تتحرّك، بغضّ النظر عن روسيا. إذا سلمت الولايات المتحدة منطقة شرق الفرات إلى تركيا، فماذا سيحدث لعلاقات تركيا مع روسيا، ولعملية أستانا؟
بالنسبة لروسيا، كانت عملية أستانا ولا تزال وسيلة لإشراك تركيا وإبعادها عن الولايات المتحدة في سورية. في الوقت الذي تتابع فيه موسكو السياسة التي وضعتها في الأساس وهي إطلاق اللجنة الدستورية. عودة اللاجئين والعمل باتجاه إعادة حكومة الرئيس بشار الأسد إلى حكم كلّ سورية، إلى جانب السعي إلى الحصول على أموال لإعادة بناء البلاد. يشكل أستانا ولا يزال أفضل مكان لمناقشة خلافات إيران وتركيا وروسيا التي تراها مجالاً لاستمرارية المحادثات الجارية مع شركائها حول خلافة أميركا في سورية.
في هذا الإطار تأتي مطالبة تركيا بشرق الفرات بالاتفاق مع الولايات المتحدة لتهدّد حقوق سيادة الدولة السورية، تخاطر تركيا بفقد مكاسبها في غرب سورية، بما في ذلك إدلب، التي تمّ التوافق على خطتها بالتعاون مع روسيا لتطرح عدم إمكانية قبول موسكو إعطاء حقول النفط في جنوب المنطقة إلى النفوذ التركي؟ وفيما تتجه تركيا إلى الانتخابات المحلية في 31 آذار/ مارس، يبدو أنّ بعض الناخبين يميلون إلى هجر الحزب الحاكم تحت تأثير المشاكل الاقتصادية التي تجتاح البلاد. فاذا بدأت أنقرة عملية واسعة إلى الشرق من الفرات من جانب واحد في محاولة لإثارة المشاعر القومية واستعادة هؤلاء الناخبين، سيتعيّن عليها أن تواجه القوى المعترضة وأهمّها الولايات المتحدة. لا سيما إنْ كانت أنقرة تخطط للذهاب إلى صندوق النقد الدولي بعد استطلاعات الرأي لدعم إنقاذ الاقتصاد المتدهور فإنّ اهتزاز العلاقة مع واشنطن بشأن سورية لن يساعدها في تلبية طموحها الاقتصادي. وحدها روسيا مَن سيحدّد مصير هذه المنطقة العازلة. المحادثات التي تقودها «قوات سورية الديمقراطية» مع الدولة السورية وبرعاية روسية تمثل الطريق الفضلى لإفهام تركيا باستحالة خلافتها الأميركيين بعد الانسحاب في الوقت الذي تحاول فيه أنقرة المناورة، يبدو المشروع التركي وكأنه لا يريد وحدة سورية بل يسعى الى تقسيمها منطقتي نفوذ واحدة تابعة للنظام وأخرى تابعة لها تتقاسم حمايتها مع الأميركيين إن نجحت في غيّها!
|