لا تغفل «إسرائيل» عن عواقب اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني وتأثيره في كلّ من «إسرائيل» وغزة. ينظر قادة العدو «الإسرائيلي» إلى استشهاد سليماني على انه يعزز الردع مع إيران، لكن احتمال انسحاب الولايات المتحدة من العراق يعرّض تل ابيب لكابوس مريع، فهم يخشون على انهيار الهدنة بينهم وبين حماس.
أوضح كبار المسؤولين الاسرائيليين انّ مشكلتهم الأساسية كانت مع سليماني حتى انّ قائد جيش الدفاع الإسرائيلي كان يشتكي منذ حوالي الشهر من أنّ الولايات المتحدة تترك «إسرائيل» بمفردها في مواجهة الحرس الثوري الإيراني واللواء سليماني، لكنه بدأ يشير بعد عملية الاغتيال الى انّ الأميركيين قد أثبتوا انهم ما زالوا متوثبين ولا ينبغي لأحد أن يتحداهم، وهذا ما أعرب عنه نتنياهو الذي وصف قتل سليماني بالحدث الأميركي، وليس حدثاً إسرائيلياً لكنه أكد أنه على «إسرائيل» أن تنأى بنفسها.
اغتباط الأوساط الأمنية الإسرائيلية بفوائد هذه العملية صاحَبته مخاوف من سيناريو انسحاب أميركي من العراق او تخلي ترامب عن الشرق الأوسط وترك «إسرائيل» وحدها في ساحة المعركة، لأنّ هذا سيشكل أسوأ توقيت ممكن بالنسبة اليها، لا سيما أنّ إيران بدأت تتخلى تدريجياً عن الاتفاق النووي، لذلك ستحاول إقناع ترامب بعدم التخلي عن المنطقة قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبشكل خاص العراق وسورية.
بيد أنّ الفلسطينيين قد شعروا أنّ الولايات المتحدة قد تجاوزت خطاً أحمر مع اغتيال سليماني، بالنظر إلى مكانته البارزة في الدولة الإيرانية. ويمكن أن تشجع هذه العملية «إسرائيل» على تنفيذ عمليات اغتيال مماثلة ضدّ القادة الفلسطينيين وتصعيد المواجهة بينهم وبين الإسرائيليين لا سيما أنّ الاتفاق الحالي مع حماس غير مستقرّ وهش، إلا انّ هذا الاتفاق يصبّ في الوقت الحالي في مصلحة جميع الأطراف لكن الجهاد الإسلامي، لم يقطع علاقاته مع إيران ولديه خطاً أكثر تشدّداً من حماس، لذلك تخشى «إسرائيل» بأنه يمكن أن يكون يعد مع إيران لجولة أخرى من التصعيد والضغط على حماس.
الحكومة التركية من جهتها صدّت بمهارة تحركات طهران من أجل حملها على الوقوف إلى جانبها. ومع ذلك، فإنّ استشهاد سليماني قد خلق حقيقة جيوسياسية جديدة تتطلب من أنقرة اتخاذ بعض القرارات الحاسمة. وصلت تركيا إلى نهاية الطريق في سياستها المتمثلة في اللعب في المنطقة الرمادية بين الحكومة الرسمية في بغداد وأوساط القوة الموازية المؤيدة لإيران في البلاد. سمحت نتائج محادثات وزير الخارجية ميفلوت جاويش اوغلو مع المسؤولين العراقيين خلال زيارته لبغداد في 9 يناير/ كانون الثاني بدعم حكومة بغداد الرسمية، والتشديد على المعايير الأمنية الرئيسية، التي تتطلب من العراق الحفاظ على سلامته الإقليمية، بمعنى آخر سعت أنقرة إلى التقليل إلى أدنى حدّ من علاقاتها مع القوى الشيعية. خيار حاسم آخر يلوح بالنسبة لأنقرة هو الاختيار بين الولايات المتحدة والكتلة الروسية الإيرانية. إذ نجحت أنقرة حتى الآن في تحقيق توازن استراتيجي بين الجانبين في العراق وسورية، مستفيدة من الصراع على من يملك زمام السلطة واللهب في المناطق الرمادية بينهما. هذه الاستراتيجية، أيضاً، تقترب من نهايتها. من المتوقع أن تضغط كلّ من الولايات المتحدة والكتلة الروسية الإيرانية على أنقرة لاختيار جانبها.
اختيار تركيا بين الولايات المتحدة والكتلة الروسية الإيرانية لن يكون بالأمر السهل. في الوقت الذي تكثف فيه الولايات المتحدة تعاونها مع وحدات حماية الشعب الكردي السوري ضد القوى الموالية لإيران، هل ستحاول أنقرة الاقتراب من الكتلة الروسية الإيرانية رداً على تعاون واشنطن مع وحدات حماية الشعب، ماذا ستفعل؟ من الواضح أنّ الولايات المتحدة ستشارك مع السنّة والأكراد العراقيين والأكراد السوريين في أيّ صراع مع القوى الموالية لإيران في العراق وسورية.
غياب اللواء سليماني يقدّم فرصاً دبلوماسية لأنقرة أيضاً، تحوّلها أنقرة إلى مكاسب دبلوماسية. اذ تقدّم روسيا، على سبيل المثال، إيماءات مثل الاعتراف بشرعية حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها أنقرة في ليبيا، وإبطاء تقدّم قوات خليفة حفتر ودفع الجيش الوطني وحفتر إلى طاولة المفاوضات، أو اتخاذ بعض المواقف لصالح تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط للضغط على خصوم تركيا، مصر واليونان.
سوف يصبح الحفاظ على سياسة الموازنة أكثر صعوبة بالنسبة لأنقرة في الأشهر المقبلة حيث تضاعف كل من الولايات المتحدة والاتحاد الروسي وإيران الضغط عليها لاختيار أيّ من الجانبين. ستجد أنقرة صعوبة متزايدة في الحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة وإيران في نفس الوقت، بعد أن دخل الخصمان في مواجهة نشطة. بعد استهداف سليماني، أصبح الشرق الأوسط مكاناً لا يمكن التنبّؤ به للغاية حيث تحاول الولايات المتحدة وروسيا وإيران و»إسرائيل» وتركيا وغيرها من الجهات الفاعلة جميعها أن تحني الدفة لصالحها.
موسكو مهتمّة بشكل خاص بكيفية تأثير ذلك، من بين أمور أخرى، على التعاون الروسي الإيراني في سورية والوضع الداخلي في إيران والوجود الأميركي في المنطقة. حيث انّ الضربة الأميركية هدفت أولاً، الى قطع رأس الحشد الشعبي ثانياً كسر العمود الفقري لمحور المقاومة؛ ثالثاً، التأثير على الوضع في سورية؛ ورابعاً، التأثير على الوضع الداخلي في إيران.
قد يستمرّ ترامب بمحاولة زعزعة أوضاع جميع القوى الموالية لإيران في العراق، فهو يعتبر انه سيغلق صفحة الحرس الثوري، بينما ترى موسكو مخاطر كبيرة باغتيال سليماني نتائجها يمكن ان تؤدّي إلى رحيل الولايات المتحدة عن المنطقة، فهذا لا يعني تلقائياً أنها هي الفائز النهائي.
من المقرّر أن يختتم بوتين جولته في الشرق الأوسط في يناير/ كانون الثاني بزيارة «إسرائيل» يومي 22 و 23 للاحتفال بإطلاق سراح الآلاف في أوشفيتز، من الواضح أنّ قضية إيران سوف تكون موضوع محادثاته. في الواقع تعدّ سورية وليبيا من أهمّ اهتمامات الرئيس الروسي، وهو يرى انّ تطور الاوضاع في العراق سينعكس على كلّ المنطقة.
|