لم تكن أنقرة لترضى بالجلوس إلى طاولة المفاوضات في سوتشي حول سورية، ما لم تتلق ضمانات على أنّ الحكم الذاتي الكردي لن يحدث على حدودها الجنوبية. وهي ترى انّ «منطقة آمنة حول عفرين ستمنع وحدات حماية الشعب من ربط كانتوناتها السورية في الجزيرة وكوباني بكانتون عفرين المعزول، وهذا سيعرقل خطط إنشاء ممرّ يمتدّ من كردستان العراق إلى البحر الأبيض المتوسط».
أما سورية وعلى الرغم من تصريحاتها ضدّ التدخل التركي فهي أيضاً تعارض منع إقامة حكم ذاتي كردي في شمال سورية وتسعى إلى استعادة حدودها كاملة.
موسكو بدورها تسعى الى حكومة مركزية قوية في دمشق، ولا تريد قوى كردية تعتبرها قريبة من الولايات المتحدة. أما الموافقة الدولية فهي حاصلة تحت شعار الأمن الاستراتيجي التركي لا سيما أنّ العدو هو حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً.
من التبسيط القول إنّ العملية العسكرية التركية في عفرين، التي تجري فصولها غرب نهر الفرات في سورية، موجّهة ضدّ الولايات المتحدة التي لا تفعل اليوم سوى المراقبة. واشنطن لم تمانع في حصول تركيا على 30 كلم كحزام أمني من دون قصف منبج أو محاولة الدخول اليها وهي التي تحوي خبراء عسكريين أميركيين. تبدو منبج بمثابة الامتحان الفاصل بين التحالف والعداء التركي الأميركي. حيث حذرت واشنطن تركيا من مغبّة اجتياز هذا الخط الأحمر. لكن تركيا رجب طيب أردوغان المعبّأة من مسار السياسة الأميركية حرّضت الأتراك بما فيه الكفاية ضدّ واشنطن وأقنعت الرأي العام بأنّ هذه السياسة ترمي إلى تقسيم تركيا وتفضيلها للكرد على الحليف الأطلسي. لعلّ مصالح واشنطن تقتضي بعض التغييرات التي لم تقنع تركيا التي ضربت عرض الحائط بالمفاوضات مع حزب العمال الكردستاني منذ 2015. بينما كان طموح واشنطن إنهاء الخلاف وتجاوز تركيا عقدة الأكراد دون أن يكون هناك تقسيم لتركيا بل حقوق سياسية وثقافية ومشاركة كردية. يمكن القول أيضاً إنّ بعض الفصائل الكردية أساءت تقدير الموقف الأميركي واعتقدت انه يمكنها تمرير فيدرالية كردية في ظلّ انتفاضات الربيع العربي التي أرادت إسقاط الأنظمة دون الحدود وتغيير الخرائط الداخلية لهذه البلدان.
كان أردوغان لا يزال ينتظر تغيير إدارة دونالد ترامب لموقفها وإبرام صفقة مع تركيا والتخلي عن وحدات الحماية الكردية ليس في عفرين فقط إنما في المناطق التي تسيطر عليها القوات المركزية الأميركية، وهي القضية الأوسع المتعلقة بالتعاون بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب شرق الفرات التي ستبقى شوكة في خاصرة العلاقات التركية – الإيرانية.
ترى تركيا أنّ علاقة الأميركيين بالسوريين الأكراد تطوّرت لتصبح شراكة أكثر استراتيجية واستدامة، وقد فُهِمَ التزام واشنطن غير المحدود زمنياً بالإبقاء على قوة عسكرية في سورية من هذه الزاوية، لذلك ستزداد المشاحنات بين تركيا والولايات المتحدة في سورية. وترى مراكز الأبحاث الأميركية انّ العلاقات الأميركية ـ التركية قد تتوتر أكثر، الأمر الذي سيدفع أنقرة إلى تمتين علاقاتها بروسيا. وإذا كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قادرة على إبرام صفقة مع أنقرة، وترغب في التخلّي عن تحالفها مع القوّات الكردية، فإنّ العلاقات الروسية – التركية ستتوتر ولن يكون بمقدور تركيا إبقاء قواتها في سورية. لكن تركيا ترى أنّ مصلحتها في سورية هي مع روسيا صاحبة المشروع الأكثر صلابة. يمكن توقع مزيد من التعاون بين موسكو وأنقرة، في إدلب حيث تتواجد هيئة تحرير الشام وهي جزء من القاعدة، فيما تعمل تركيا على عزل التركمان الإيغوريين والتركستانيين عن هيئة تحرير الشام وإعادتهم إلى بلادهم. فمبادلة الأراضي الأخيرة شملت عفرين وأبو الظهور وكذلك الجانب الشرقي من سكة حديد الحجاز، ما يمكنه أن يؤسّس لصفقات مستقبلية مماثلة. ونتيجة لذلك، قد تتسع مجالات النفوذ التركية والروسية في سورية.
الكرملين بدوره كان قد عقد آمالاً على إدارة ترامب وعلى تعاون مع السياسة الأميركية في سورية، لكن على الرغم من تصريحات الرئيس الأميركي بأنّ قواته موجودة فقط لمحاربة داعش، فإنّ واشنطن تسيطر اليوم على 25 في المئة من الأراضي السورية في الشمال والشرق، لضمان أن يكون لها دور مؤثّر في التسوية السياسية، في مستقبل سورية.
من هنا يرى الكرملين انّ البيت الأبيض سيحاول العرقلة بأقصى ما يمكن وسيسعى إلى المطالبة بحصته. أما الرئيس فلاديمير بوتين المرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في روسيا فهو استثمر طويلاً في سورية ولا يريد تقديم أيّ تنازلات سياسية، لذلك لا يمكن إيجاد حلّ حقيقي عبر المواجهة ولا زال التفاهم بعيداً في ظلّ العدائية التي تعبّر عنها واشنطن اتجاه روسيا…
|