لم يكن ولاء جمال خاشقجي لبلاده موضع شكّ، إذ كان نقده لسياسات بلاده يعبّر عن خيبة الأمل أكثر من أيّ شيء آخر. دعا خاشقجي السعوديين إلى وقف إطلاق النار في اليمن على الفور وقبول هدنة وطنية. واقترح على الرياض أن تعرض استضافة محادثات السلام في الطائف التي كانت مسرحاً للوساطة السعودية السابقة والعمل مع الحوثيين، ومع الانفصاليين الجنوبيين اليمنيين، كذلك مع حكومة هادي وكلّ القوى السياسية اليمنية لإيجاد حلّ سياسي للحرب. كانت مقالته «واشنطن بوست» واضحة في تحميل ولي العهد السعودي المسؤولية الكاملة عن الحرب والمذبحة التي تسبّبها، بما في ذلك سياسته داخل المملكة العربية السعودية التي لديها تاريخ طويل في اختطاف المنشقين من الخارج. لكن يبدو أنّ الوتيرة قد تصاعدت في السنوات الأخيرة منذ أن تولى الملك سلمان العرش في عام 2015. ولا يزال ولي العهد السابق محمد بن نايف قيد الإقامة الجبرية، ومؤخراً جرى اعتقال معارضين أصدقاء للخاشقجي، كذلك تمّ اعتقال شخصية دينية بارزة وهو مهدّد بالإعدام لمعارضته سياسة مقاطعة قطر. ومنذ فترة ليست بقصيرة طردت المملكة العربية السعودية السفير الكندي لانتقاده سلوكها في مجال حقوق الإنسان. يعتقد ولي العهد أنّ إدارة ترامب لن تفعل شيئاً حيال انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية. وهذا من مخاطر سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط التي تتماشى بشكل وثيق مع الرياض. من الحرب في اليمن إلى الصراع «الإسرائيلي» ـ الفلسطيني، استثمرت واشنطن بكثافة في علاقة بُنيت إلى حدّ كبير على العلاقة الشخصية بين ولي العهد محمد بن سلمان وكبير مستشاري ترامب، صهره جاريد كوشنر.
تثير مسألة خاشقجي أسئلة حول سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟
هناك شعور تسارع خلال العامين الماضيين بأنّ دول الخليج لديها تفويض مطلق للعمل كما تراه مناسباً، وهي ثمرة طبيعية لسياسة الولايات المتحدة تجاه المملكة السعودية ومنطقة الخليج، وهي نالت منذ البداية «ضوءاً أخضر من الإدارة». أما في ظلّ ترامب، فتبنّت الولايات المتحدة أجندة سعودية «ومما لا شك فيه أنها لا تتبع فقط سياسة السعودية نحو إيران بل ترى أنّ طهران هي سبب العلل في منطقة الشرق الأوسط، مما أدّى إلى الانسحاب من الاتفاق النووي الذي تمّ عقده عام 2015. أثار الابتعاد عن سياسة أوباما المتمثلة في الموازنة بين أمن دول الخليج وإيران المخاوف من أنّ الولايات المتحدة لا تقف على الحياد في الصراع الإقليمي الذي أخذ طابعاً بين السنة والشيعة، لكن في مذكرة أيار/ مايو 2017 تمّ توضيح السياسة الجديدة، من قبل وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون، وهو عبّر عن استخدام حقوق الإنسان ضدّ أعداء واشنطن بدلاً من اعتمادها كمحور للسياسة الخارجية في جميع المجالات وفي كلّ البلدان. غذت هذه الإدارة الغطرسة السعودية، حيث مثل منتقدون مثل خاشقجي، من بعض النواحي، تهديداً لهذه الأنظمة أكبر من المعارضين الأكثر راديكالية، لأنها يرون أنه فعّال جداً فهو يكتب لصحيفة بارزة، هي «واشنطن بوست». وهو مدعو كمحاضر في العديد من الدوائر. ولأنه لا يتخذ موقفاً متشدّداً للغاية في جميع المواضيع المتعلقة بالسعودية، فإنه ينظر إليه باعتباره صوتاً شرعياً ومستقلاً. ساعد الغرب السعوديين على الإفلات من العقاب بطريقة ما، حيث تمّ السماح لهم بالاعتقاد بأنهم في غاية الأهمية وأنهم يتمتّعون بموقع استراتيجي منحهم الرئيس دونالد ترامب فرصة للهروب من اختفاء الصحافي جمال خاشقجي. وأكد الرئيس الأميركي مراراً وتكراراً أنّ الملك سلمان بن عبد العزيز «يُنكر بشدة» المزاعم التركية بأنّ قوات الاستخبارات السعودية قتلت خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. كما أكد ترامب أنّ خاشقجي ليس مواطناً أميركياً، رغم أنه عاش في الولايات المتحدة تحت الإقامة المؤقتة. وكان ترامب قد اعتبر السعودية حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة اتكأ عليه على نطاق واسع من سياسة التشدّد ضدّ إيران إلى خطة السلام «الإسرائيلية» ـ الفلسطينية.
أرسل ترامب وزير الخارجية مايك بومبيو إلى السعودية والى تركيا لمناقشة الأمر. السلطات التركية من جهتها كانت واثقة من اغتيال خاشقجي داخل القنصلية بناء على أمر من الرياض. كان يتوقع المرء من تركيا ألا تفوّت هذه المناسبة لشنّ حملة لإذلال آل سعود. ومع ذلك فالرئيس رجب طيب أردوغان كان يزين كلماته، لهجته في هذه القضية كانت معتدلة على نحو غير عادي. فلم تتخذ تركيا إجراء للضغط على الرياض، بل على العكس، فقد كانت تنتظر بصبر أن تقبل السلطات السعودية اقتراحها بالتعاون. ربما يمكن تفسير ضبط النفس برغبة تركيا في تجنّب مسار تصادمي مع السعوديين، الأمر الذي قد يدفع اختفاء الصحافي السعودي إلى الخطوط الجانبية. لكن سماح السلطات التركية لوسائل الإعلام الأجنبية، وتسريبها المتعمّد لنتائج التحقيقات بدا متناقضاً مع خطابها الرسمي المنضبط. يبدو أنّ الحكومة حاولت تحقيق توازن دقيق. للضغط على الرياض مع تجنّب التوتر المتصاعد إلى أزمة إقليمية أو دولية ضخمة تجعل قضية خاشقجي ضحية للمنافسات الإقليمية. أنقرة تحاول تجنّب دفع آل سعود إلى الزاوية وتقديم استراتيجية للخروج، لكي يعترقوا بالذنب ويلوموا عناصر مارقة وهو ما اقترحه كتّاب الأعمدة الموالين للحكومة. يبدو أنّ أنقرة في أسلوبها في إبقاء دائرة الضوء على القضية وتجنّب تحوّل التركيز إلى أزمة دولية دفعت السعوديين نحو استراتيجية الخروج.
تسريب المعلومات الاستخبارية من قبل السلطات التركية لم يترك مجالاً للشك إلى أنّ الأمور سارت كما هو مخطط لها من قبل السعودية. ترك الدبلوماسي السعودي يغادر اسطنبول قد يهدف الى انّ أنقرة ترى أنّ المسؤول عن العملية هو رأس السلطة السعودية والذي يملك القرار، أيّ محمد بن سلمان، كما تشير المعلومات. لكن إذا تمّت محاكمة فرقة الموت المكوّنة من 15 عضواً وإدانتها، فهل سيُغلَق ملف القضية؟ يستخدم الرئيس أردوغان هذه القضية لتحقيق مكاسب سياسية. هل يجبر أردوغان إدارة ترامب على استخدام نفوذها للحدّ من قوة إبن سلمان؟ وهل يمكن اعتبار هذا الأمر مكسباً سياسياً في ما يخص الأزمة مع قطر؟ هل ستساعد تركيا إدارة ترامب في إنقاذ سمعة آل سعود من الإذلال وتطلب في مقابلها بعض التنازلات في العلاقات الأميركية ـ التركية؟
|