لا يمكن الشك على الإطلاق في مقدرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على لملمة الأوراق والمجابهة حين يتيقن أنه لا بدّ أن يجترح أفكاراً ويضع نفسه في قلب الحدث الذي تمثل من أسابيع بقمة هلسنكي. قام باتصالات مع الرئيسين الأميركي والروسي من أجل سبر أغوار ما تم الاتفاق عليه الا انه لم يصل الى غايته. ومع توتر العلاقات الأميركية التركية بعد تغريدة التهديد الأميركي التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب بفرض عقوبات على تركيا بسبب اعتقالها المستمر للمواطن الأميركي القس برونسون الذي يقود جماعة من المؤمنين في ازمير منذ 22 عاماً، تولى وزير خارجيته ميفلوت جاويش أوغلو الردّ بأنه لا يمكن القبول بتهديد تركيا، لكن الرئيس التركي اضطر الى كشف أن أنقرة طلبت من الولايات المتحدة مساعدتها في عودة المواطنة التركية، إيبرو أوزكان، من «إسرائيل»، التي أفرج عنها، ولكن الاسرائيليين صادروا جواز سفرها، فطلبت تركيا من الأميركيين تسليمها جواز سفر أميركياً من اجل العودة الى بلادها، الا ان أردوغان قال إن أنقرة لم تعلن أنها ستفرج عن برونسون مقابل هذه الصفقة. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قد طالب «إسرائيل» بالإفراج عن المواطنة التركية المتهمة بالارتباط بحركة حماس، مقابل قيام أنقرة بإطلاق سراح القس الأميركي. لكن أنقرة رفضت إطلاق سراح القس، فيما استجابت «إسرائيل» وقامت بترحيل إيبرو أوزكان يوم 15 تموز/ يوليو.
هذا الأمر جعل إدارة الرئيس ترامب تتماشى مع جهود الكونغرس التي دامت أشهرًا لمعاقبة حليف الناتو. وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد عملت على عدم الوصول الى هذه النقطة بالذات بعد أن أرسلت رسائل الى أردوغان من دون جدوى.
جاء تهديد الرئيس الأميركي بعد ساعة فقط من إصدار تشريع رئيسي في مجلس الشيوخ لتقليص استفادة تركيا من المؤسسات المالية الدولية. رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كوركير، قال قبل تصويت اللجنة بالإجماع لتمرير قانون حول المؤسسات المالية الدولية إنهم سيواصلون الضغط على تركيا من اجل الإفراج عن القس وموظفين آخرين في القنصليات الأميركية. ويوجّه مشروع القانون المقترح المديرين التنفيذيين المعينين من قبل الولايات المتحدة في مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية على التصويت ضد تمديد أي «قرض أو مساعدة مالية أو فنية» إلى تركيا. حيث يجب أن يظل الحظر قائماً حتى يقر الرئيس الأميركي بأنه لم تعد حاجى لموظفين عاملين في بعثة الولايات المتحدة. لا يذهب التشريع إلى حد التفويض بعدم التصويت في صندوق النقد الدولي. ومع ذلك، فإنه يوجه المدير الأميركي لصندوق النقد الدولي «للعمل مع الدول المانحة الرئيسية الأخرى لتطوير نهج سياسة متماسكة للالتزامات المستقبلية مع الحكومة التركية والإقراض لها، بطريقة من شأنها تعزيز حقوق الإنسان».
يأتي هذا القرار في وقت تشير فيه معظم المؤشرات إلى أن الأزمة الاقتصادية باتت وشيكة في تركيا. وبالتالي، قد تكون تركيا في حاجة ربما إلى حزمة إنقاذ كبيرة من صندوق النقد الدولي ويشير التشريع إلى إجماع ناشئ بين السلطة التنفيذية والكونغرس لصالح التدابير العقابية ضد تركيا.
كانت وزارة الخارجية الأميركية تحبّذ تأجيل اتخاذ الإجراءات العقابية في إطار سعيها إلى تسوية المواجهة العسكرية الشائكة بين الأتراك والأكراد المدعومين من الولايات المتحدة في منبج لكن مقاربتها قد فشلت، ولم تتمكن من تأمين إطلاق سراح برونسون، مما عزز رأي الذين يعتقدون أن الوقت قد حان للتشدّد مع تركيا. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان مشروع قانون مجلس الشيوخ يمكن أن يمنع المؤسسات الدولية من تنفيذ مشاريع في تركيا حيث يحق للمساهمين الآخرين التصويت على التمويل المستمر لأنقرة.
تُعَدّ تركيا أكبر مقترض للبنك الأوروبي للمساعدات بنحو 1.8 مليار دولار. كما تلقت أنقرة أيضاً 927 مليون دولار في صورة التزامات تمويل طويل الأجل من مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي.
يرى أردوغان انها حرب نفسية اما المحللون الاتراك فيرون ان الولايات المتحدة تفقد تركيا وفي الوقت الذي تخوض فيه الولايات المتحدة صراعاً جيواستراتيجياً عالمياً وإقليمياً مع الصين وروسيا وإيران، فإن حليفتها في الحرب الباردة، تركيا، تقترب من موسكو.
أتت تغريدة ترامب فيما كان أردوغان متوجهاً الى جوهانسبرغ، حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة البريكس. سيطرت سورية على المحادثات والعلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا. الوضع حول إدلب وكذلك القضية الكردية في سورية التي تؤرق أردوغان .
بدت تركيا مشغولة بالمحادثات بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ودمشق في مواجهة احتمال حدوث انسحاب أميركي من سورية، حيث ذهب الأكراد للتفاوض بشأن وضعهم المستقبلي مع الدولة السورية. ومحاولة الاتفاق حول عودة الدولة السورية إلى عفرين ومنبج ودمج مقاتلي حزب الاتحاد مع الجيش السوري، فيما تسعى الدولة الى بسط سلطتها على الاراضي السورية كافة، حيث يضع الأكراد أيديهم على 27 في المئة من هذه الارض. خلال اجتماعه مع بوتين، لفت أردوغان الانتباه إلى ضرورة إبلاغه بمثل هذه الاتصالات مع الممثلين الأكراد وتنسيق أي تحركات بشأن القضايا الكردية. في سورية مع تركيا كدولة ضامنة. الوضع في إدلب مثير للقلق بالنسبة لتركيا، بعدما أطلق الجيش السوري عمليات انتشار على الجانب المقابل من منطقة التصعيد في إدلب. كان اجتماع بوتين أردوغان في جوهانسبورج على خلفية تقارير عن تعزيزات الحكومة السورية في اللاذقية وحماة – المناطق المجاورة لسيطرة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة.
لا يبدو أن تركيا تستبعد إمكانية شنّ هجوم في إدلب وتقوم بتحصين نقاط المراقبة الخاصة بها بجدران أسمنت، لكن موسكو تدرك تمامًا أنه بدون الاستعداد الدبلوماسي، فإن الهجوم العسكري في إدلب ينطوي على مخاطر جسيمة. مع رغبتها في إنهاء الصراع السوري، لا تزال روسيا مهتمّة بمواصلة التعاون الثنائي مع تركيا في ما يتجاوز الموضوع السوري. لم يصل بوتين وأردوغان إلى تسوية لقضية إدلب بشكل صارم داخل إطار أستانة الثلاثي. وستتم مناقشة القضية مرة أخرى في اجتماع سوتشي المقرر في 30 -31 تموز/يوليو وخلال القمة بين بوتين وأردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني المقرر إجراؤها في إيران على الأرجح في نهاية آب/ أغسطس.
من المرجّح أن تدفع روسيا باتجاه سيناريو «الإجبار على السلام» الذي تطبقه في جنوب سورية، مما يجعل الجماعات المعتدلة المعارضة تتصالح مع الدولة. لكن أنقرة لن تقبل بهذا النهج، ولديها خطة تدور حول تشكيل إدارة مدنية في إدلب ووضعها تحت سيطرة «الجيش الوطني السوري»، وهو تحالف معارض تم إنشاؤه بمشاركة القادة العسكريين الأتراك.
ربما هناك تطابق روسي تركي حول وحدة الأراضي السورية، لكن ليس على وجود الاسد والحرب على ادلب ومصير المعارضة، تخشى تركيا من أن تكون روسيا توصلت إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن حل مشكلة الأكراد السوريين والمشكلة الثانية، هي، بالطبع، إدلب. فدمشق مصرّة على عودة كامل الأراضي إلى سيطرتها. على الأرجح، تمّ التخطيط لعملية ما في إدلب، أما روسيا فسيكون عليها اختبار متانة علاقاتها مع تركيا. إذ يمكن أن تؤدي الأعمال العدائية المحتملة على الأقل إلى اختلال التعاون المستمر بين موسكو وأنقرة.
ومع ذلك، هناك دلائل على أنهم سيحاولون حل معضلة إدلب قدر الإمكان بطريقة سلمية. اقترحت تركيا، مقاربة لتسوية الوضع في منطقة إدلب وهو إقناع المقاتلين بتسليم أسلحتهم المتوسطة والثقيلة لتركيا، وهي تضمن أمنهم بعد عقد مؤتمر للمعارضة وحتى للإرهابيين. ربما تكون هذه المقاربة نفسها محاولة لتأجيل عودة إدلب وأجزاء من المحافظات المجاورة إلى سيطرة دمشق الرسمية. قد تكون هذه المقترحات بمثابة أساس «محمية» تركية – روسية أخرى على الطريق الذي يمر عبر المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فالطريق السريع يجب أن يكون مفتوحاً لنقل البضائع بين دمشق وحلب. يبقى السؤال الرئيسي الذي يلي اجتماع جوهانسبورغ هو ما إذا كانت موسكو مستعدة للموافقة على مثل هذه التدابير النصفية لا سيما أن أردوغان يلعب على ضمان أوراق قوته في سورية هذه الأوراق التي ساعدته على الفوز في الداخل لا سيما الورقة الكردية. فهل سينجح في اختراق الاتفاقات الأميركية الروسية.
|