تنوّعت التحليلات حول الأزمة الأميركية التركية بعد أن أظهر الطرفان ميلاً لعدم التراجع واعتبار المسألة مسألة كرامة وطنية. فمنها مَن توقع تمزّق وشيك بين الحلفاء في الناتو الى أخرى رأت أنّ الأمور يمكن أن تسوء أكثر وتطول، لكن العقلانية منها رأت أنها أزمة لن تستمرّ لا سيما أنّ الوضع الاقتصادي في تركيا لا يتحمّل هزات سياسية.
قرار وزارة الخزانة الأميركية تجميد أصول تعود لوزير الداخلية سليمان سويلو ولوزير العدل عبد الحميد غول في الولايات المتحدة حظر على الأميركيين التعامل معهم بموجب قانون غلوبال ماغنتسكي لعام 2016 الذي يعاقب على انتهاك حقوق الإنسان والفساد.. بعض المحللين الأتراك قللوا من أهمية هذه الخطوة واعتبروها رمزية، لكنها غير مسبوقة بين حلفاء الناتو. لا شك في أنّ الخلاف بين الولايات المتحدة وتركيا ينعكس على وضع الاقتصاد التركي الهشّ، فالولايات المتحدة لديها القدرة على إلحاق ضرر كبير باقتصاد تركيا إذا أرادت ذلك. يمكن لأردوغان تحمّل التبعات انْ وافق الشعب التركي على مواجهة أميركا، وهذا يعني انّ انقرة لن تطلق سراح برونسون، والولايات المتحدة ستذهب الى مزيد من العقوبات ضدّ المسؤولين والبنوك التركية.
فمن أجل حلّ قضية القس المحتجز برونسون قدّم الرئيس الأميركي تنازلين لأنقرة الأول يتعلق بتخفيض الغرامة المتوقعة بمليارات الدولارات على «هالك بنك» التركي الذي كان قد ساهم باختراق العقوبات التي كانت مفروضة على إيران، وتسليم المدير التنفيذي المدان في قضية «هالك بنك» محمد هاكان آتيلا لقضاء ما تبقى من عقوبته في تركيا. أما التنازل الثاني فكان تأمين إعادة المواطنة التركية إبرو اوزكان في 16 تموز/ يوليو وهي المتهمة بالارتباط بحماس، لكن الردّ التركي كان نقل برونسون من زنزانته في محافظة إزمير الغربية إلى الإقامة الجبرية في منزل عائلي.
وبحسب معلومات بلومبرغ انّ الصفقة انهارت عندما طالبت تركيا بإسقاط التحقيق في الأساس ضدّ «هالك بنك». ربما كانت أنقرة تسعى للحصول على ضمانات بعدم إجراء مزيد من التحقيقات مما يؤدّي إلى مزيد من الاعتقالات المحتملة أو فرض غرامة على المواطنين والبنوك التركية.
لا شك في أنّ تركيا تنجرف بعيداً عن الغرب وعن الولايات المتحدة. فنقاط التوتر ووقوف تركيا ضدّ العقوبات على إيران وشراء صواريخ أس 400 من روسيا أزعجت الولايات المتحدة التي دعمت وحدات الحماية الكردية في سورية، ولا زالت تتمسك بعدم تسليم الداعية غولن لتركيا.
إنْ واجهت أنقرة أميركا فسيسمح ذلك للكونغرس والإدارة بإعداد مجموعة من العقوبات المقترحة، بما في ذلك وقف مبيعات الطائرات المقاتلة من طراز «أف ـ 35» ومنع التمويل عن تركيا وعدم إقراض المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي.
دفع هذا القرار الليرة التركية المتعثرة لتسجيل أدنى مستويات لها مقابل الدولار. وتأتي التوترات المتصاعدة الثنائية وأثرها الاقتصادي في مقدمة علامات مثيرة للقلق حول كيفية تعامل الرئيس رجب طيب أردوغان مع الاقتصاد المتعثر. كانت الأسواق قد توقعت في 24 تموز/ يوليو اتخاذ قرار بشأن أسعار الفائدة وإرسال أول إشارة رئيسية حول الكيفية التي ستدير بها إدارة أردوغان الجديدة الاقتصاد ورفع نسبة 100 نقطة على الأقلّ لدعم الليرة التركية والحدّ من الارتفاع الخطير في أسعار العملات الصعبة. وكان برات البيرق وزير المالية وصهر الرئيس، قد تعهّد قبل الاجتماع بعدم التناحر مع الأسواق وبدلاً من ذلك السعي وراء «علاقة مربحة للجانبين». إلا أنّ الاجتماع انتهى بقرار إبقاء سعر الفائدة على حاله دون تغيير، وهو ما تعتبره الأسواق أمراً مباشراً من جانب أردوغان، نظراً لنفوره المعروف من أسعار الفائدة المرتفعة وآرائه الاقتصادية غير التقليدية التي لطالما شغلت المستثمرين. ظلّ الاقتصاد التركي عالقاً بين تصاعد أسعار العملات الصعبة وارتفاع تكاليف الإقراض بنسبة 25 تقريباً.
في تقرير التضخم في 31 تموز/ يوليو، قام البنك المركزي بمراجعة توقعات التضخم في نهاية السنة إلى 13.4 ، بزيادة قدرها 5 نقاط مئوية من 8.4 في نيسان/أبريل. وقال التقرير إنه من المتوقع أن ينخفض المعدل إلى 9 في عام 2019. وبسبب ارتفاع معدّل التضخم، فإنّ المؤشرات الاقتصادية الأخرى آخذة في التدهور أيضاً. وفي حين أنّ مناخ عدم اليقين يثبط الاستثمارات، فإنّ التضخم يؤدّي إلى تآكل الدخول الحقيقية والحدّ من الاستهلاك المحلي. ونتيجة لذلك، فإنّ الطلب المتقلص يؤثر على النمو الاقتصادي، الذي يعتمد على حدّ كبير على السوق المحلية.
من المتوقع أن يتباطأ الاقتصاد التركي، وكان للتحذيرات أثر اقتصادي فوري، مما أدّى إلى رفع علاوة المخاطر التركية، حيث سعى الخبراء إلى التنبّؤ بنطاق العقوبات المقبلة ويعني ارتفاع علاوة المخاطرة أنّ تركيا ستواجه الآن أسعار فائدة أعلى عندما تحاول الاقتراض من دائنين أجانب. وتبلغ احتياجات التمويل الخارجي للبلد خلال الاثني عشر شهراً المقبلة 230 مليار دولار، بما في ذلك 180 مليار دولار للتخلص من الديون الخارجية و 50 مليار دولار لتغطية العجز المتراكم في الحساب الجاري. وبالتالي، فإنّ مسألة كيفية تأمين الأموال المطلوبة وبأيّ تكلفة أمر بالغ الأهمية.
جاءت التوترات مع واشنطن وسط هذه الأزمة الخطيرة بالفعل، مما فاقم من ويلات نظام أردوغان.. واقترح البعض أنّ موقف واشنطن المتصلّب سيعتمد على تدفق رأس المال الأجنبي إلى تركيا والدعم الذي قد يسعى إليه من صندوق النقد الدولي يمكن أن يكون مجرد بداية لما سيبدو وكأنه هجوم أميركي على الاقتصاد التركي الضعيف». ومن الواضح أنّ الخلاف السياسي بين الحلفاء في الناتو قد أضرّ بالاقتصاد التركي، حيث كان للجزاءات تأثير فوري على العملة. إنّ النظرة القاتمة التي رسمتها وكالات التصنيف الائتماني تجعل توفير الأموال الخارجية أكثر صعوبة، مما يدفع أنقرة خطوة خطوة إلى باب صندوق النقد الدولي. لطالما ادّعى أردوغان أنّ صندوق النقد الدولي قد سعى إلى الاقتراض من تركيا. بعد ما سدّدت كلّ ديونها. لذلك سيتمّ إفساح المجال أمام إمكانية قيام دبلوماسية منفتحة، فبعد لقاء بومبيو بمولود جاويش اوغلو وزير الخارجية التركي في سنغافورة على هامش قمة آسيان. قام وزير الاقتصاد بيرات البيرق والملازم الرئيسي لأردوغان، بالإشارة الى «الماضي التاريخي القوي والتحالف» بين تركيا والولايات المتحدة. وقال «إنّ العقوبات الأميركية غير مقبولة»، لكنه تجاهل تأثيرها على الاقتصاد. وأكد أنّ الدبلوماسية هي الحلّ.
|