"لقد أنبأت الأمة السورية بأضرار تلك العقلية العربية الوهمية والإتكالية وشرحت في كتاباتي واقع العالم العربي الذي هو واقع أمم ومجتمعات متقاربة يسهل تعاونها وتشكيل جبهة تعاونية منها، لا واقع أمة واحدة ومجتمع واحد. وناديت الأمة السورية إلى النهوض بنفسها لتتمكن من الاشتغال في قضايا العالم العربي ولتكون قوة فاعلة في تكوين الجبهة العربية، وحذرتها من عاقبة الاستسلام لوهم "الوحدة العربية" .. ومبالغات "الأربعين أو الخمسين مليون عربي" المذرورين على شواطئ قارتين. فقامت قيامة العروبيين ومستغلي العروبة على الحزب القومي الاجتماعي وأخذوا ينادون إن هذا الحزب الذي يريد إنقاذ سورية من تخبطها وفوضاها وجعلها قوة ذات قيمة تعاونية كبيرة في العالم العربي "عدو العرب".
ذهبت كيليكية فقلت أن على سورية أن تقوم هي بقضيتها القومية وتستعيد هذه المنطقة الشمالية الخصبة من الوطن السوري، وقال العروبيون: لا بأس فإن "الوحدة العربية" ستتكفل بإعادة هذه الأرض. ثم ذهبت الاسكندرونة ذات الموقع الحيوي الممتاز فقال العروبيون: لا بأس، "فالوحدة العربية"، متى تمت تعيدها. وقال القوميون الاجتماعيون: قد خسرت سورية الاسكندرونة كما خسرت كيليكية بسبب إهمالها قوميتها وعدم إقبالها على إقامة النظام الاجتماعي الذي يوحد قواها ويعطيها فعالية الحياة فيجب أن تنهض بقوميتها لتستعيد الاسكندرونة. ثم جاءت أزمة فلسطين فكررت إنذاراتي بذهاب هذه البقعة الثمينة من الأرض السورية إلى اليهود وغير اليهود إذا استمر الشعب السوري في خيال العروبة الخيالية "الوحدة العربية وجيوش العرب والعروبة" ولكن العقلية "العربية" اللا تعبيرية في سورية الطبيعية ظلت مستمرة في قواعدها وأساليبها إلى أن وصلت بالقضية الفلسطينية إلى الكارثة التي أنبأت، في رسالتي إلى الأمة في 2 تشرين الثاني 1947 بوصولها إليها.
لم يجتمع العالم العربي أمة واحدة في فلسطين، كما كان يزعم السوريون العروبيون وقد ظهرت في فلسطين حقيقة الواقع أن العالم العربي أمم لا أمة. ومن صور هذه الحقيقة المؤلمة لغير المخدوعين وللمخدوعين المستيقظين أن مصر كانت نظريا تحارب مع السوريين ضد اليهود في حين أنها كانت، عملياً، تشاطر اليهود احتلال أرض سورية. فاستولت على منطقة النقب الغنية بالنفط والإمكانيات العمرانية. وعلى هذه المنطقة جرى أخيراً النزاع بين مصر واليهود وتجري اليوم مفاوضات السلم بين مصر وإسرائيل!
لم تكن هناك حاجة إلى اشتراك مصر والعرب في الدفاع عن فلسطين لو أن الأمة السورية كانت ناهضة بحقيقتها التي تنادي بها الحركة القومية الاجتماعية ولو لم تكن صريعة الوهم العروبي ــ وهم "الوحدة العربية والخمسين مليون عربي" ــ الذي يحاول العروبيون أن يستعيضوا به عن نتيجة جهلهم واقع الأمة السورية وواقع العالم العربي.
في فلسطين أفلست العروبة وأفلست الفئة العروبية من فئات النيورجعيين!
كان إفلاس العروبة في فلسطين إفلاساً كاملاً، باهراً نادر المثيل. إنها أرادت أن تواجه قضية سياسية انترنسيونية من الطراز الأول بقضايا وهمية ومبادئ ميتة.
بعقلية الجهاد الديني، الذي انتهى أجله ومضى زمانه، أرادت عروبة النفسية المريضة في سورية أن تعالج قضية قومية ممتازة ومسألة سياسية من أدق مسائل هذا الزمن. وفي حرب عصرية في عصر القوميات أرادت أن تحارب بجيش مثال جيش "اليرموك" وأن تحول أنظار السوريين إلى الصحراء العربية وأساليب العربة!
في فلسطين ودعت الأمة السورية العروبة الوهمية، العاجزة الإتكالية وداعاً فاجعاً لتلبي دعوة الحركة القومية الاجتماعية إلى قوميتها الحقيقية ولترى بعين حقيقتها هي واقع العالم العربي؛ فتنهض بقضيتها السورية فتجد في قواها التي أهملتها زمناً معيناً للنشاط لا ينضب ودافعاً إلى التقدم لا يصده شيء.
من مقال نشر في العدد 95 من جريدة "كل شيء" كانون 2 سنة 1949
|