أرى جلياً أنك، بهذه الحملة الشديدة على شعبنا، تريد أن ترفعه وأن تعيد إليه حقيقته التي أضاعها، ولكني أرى أن في تعابيرك أحكاماً عليه تصغره في عين نفسه وتجعله يفقد ثقته بحقيقته وبمؤهلاته للنهوض. أنك تكاد تنتقم منه، بدلاً من أن تؤديه وتعلمه.
ومع ذلك، فإني أرى كيف تعود فتدرك ذلك وتحاول أن تنتشله وتريه اتجاه النور. ولكني اعتقد أنه يكون قد خاف كثيراً من نفسه حتى لم تعد له بها ثقة ولم يعد يصلح لشيء سوى أن يكون قطعاً تحرك بالسياط والعصي.
كم أحببت حملتك على الإدراك العادي والتفكير المعتاد المسيطرين في مجتمعنا. وكم أحببت اتجاهك الصحيح نحو نور الحقيقة والجمال والحب والعدل، وثق أن شعبنا كله، كل الشعب السوري، مؤهل للأخذ بهذا الاتجاه بقيادة فلاسفته الذين يدركون حقيقة نفسيته التي كادت طبقات الحوادث التاريخية تطفىء نورها.
إذا كان معنى الفلسفة الفلاسفة أنفسهم، كما تقول، فاشد حاجة شعبنا إلى هذا المعنى. إن الإدراك العادي سيظل إدراكاً عادياً، مهما تثقف وارتقى، والفلسفة تظل فلسفة، والعالم لا يحتاج فقط إلى الفلسفة، بل يحتاج على الإدراك العادي أيضاً، لأنه حيث يوجد معط يجب أن يكون هنالك متسلم يقبل.
وإنه من الحسن أن يفكر الإدراك العادي بديمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو واغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الحقائق الأساسية والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكر فيها هؤلاء الفلاسفة.
وأعتقد أنك أنت أيضاً ستظل تحدق، من خلال هذه الأسماء، في الحقائق النفسية الأخيرة، حتى تغيب من أمام باصرتك هذه الأسماء، وتغوص على هذه الحقائق والمرامي في أعماق نفسك وتحس تياراتها الخفية الجارية من تحت الطبقات التاريخية المطبقة عليها، فتكشف نفسك - نفسيتك الأصلية بكل جمالها وكل قوتها - فتخرج فيلسوفاً لا ناقل فلسف.، وحينئذ تجد الحلقة المفقودة بين الفلسفة والإدراك العادي وتدرك الرابطة بين الفيلسوف وأمته، وبين حيوية أمته وقبول الشعوب القريبة منه.، حينئذ لا تعود بك حاجة لمناداة الشرق الأدنى أو العالم العربي لأن فلسفتك، فلسفة أمتك، تكون قد أصبحت فاعلة.
هذا هو فكري وشعوري في صدد خطابك الثمين، أقوله من أجل "نظام العقائد الأساسية" الضروري لتسديد حياة الأمة، واقبل احترامي الكلي وإخلاصي.
ولتحي سورية
الإمضاء: انطون سعاده
في 10 ابريل 1938
تمت
النظام الجديد، العدد الأول مارس 1948 المجلد الأول.
|