في مقالات سابقة نشرت في ( كل شيء ) ان انخذال المجهود السوري في فلسطين يعود الى النفسية المريضة التي سيطرت على هذا المجهود وواجهت قضايا العالم الحاضر بقضايا العالم الغابر .
الحقيقة هي ان سورية اللاقومية اجتماعية كلها لا تزال تعيش في عالم من القضايا متأخر جداً عن عالم العصر الحديث . فهي لا تزال تعمل في عصر القوميات وتنازع الامم موارد الحياة والبقاء والتفوق لقضايا الحزبيات الدينية والحروب الهلالية والصليبية ! ولا تزال القضايا الدينية تشغل مركز الشعور من كل سوري وسورية لم يتح لهما ان تمس نفسيهما اليقظة القومية وان تشغل عقليهما قضايا النهضة القومية الاجتماعية التقدمية .
في هذه النفسية المتخبطة في شواغل الماضي السحيق كان على الحركة السورية القومية الاجتماعية ان تعمل في لبنان وفي بقية الدول السورية . كانت الصعوبة من هذه الناحية هائلة . واول ناحية من نواحي هذه الصعوبة كانت اللغة، اي المفاهيم . فقد كانت لغة النهضة القومية الاجتماعية غير مفهومة عند الناس وكان يجب تعليم هذه اللغة لكل فرد يريد الاقتراب من قضايا هذه النهضة . وكان تعليم المتوسطي الاعمار والمتقدمين في السن من الصعوبة بمكان فكان من الطبيعي أن تتجه الحركة القومية الاجتماعية إلى الاحداث والشبان لأنهم اقرب الى قبول التعليم الجديد وتعلم اللغة الجديدة، لغة المناقب القومية الاجتماعية وقضايا الاجتماع النفسية والاقتصادية والسياسية .
طبيعي ان سورية التي اخفقت ورجعت منكسرة ومسحوقة النفس من اول محاولة لمواجهة قضايا تنازع الامم الحياة والتفوق كانت سورية النفسية القديمة المريضة – نفسية التجمهر باسم الدين والقضايا الدينية، بدلاً من الانتظام في عقيدة القومية الاجتماعية، نفسية اتخاذ القومية لباساً فضفاضاً للحزبية الدينية التي ماتت في كل العالم المتقدم ولا تزال تمتص دماء الامم في العالم المتأخر !
تلك هي سورية التي اخفقت في الحرب العالمية الاولى 1914 - 1918 فلن تتمكن من انتهاز تلك الفرصة الثمينة النادرة للانتفاض على السيادة التركية واسترجاع السيادة السورية . تلك هي سورية التي فشلت في دفع " الانتداب " الاستعماري عنها . تلك هي سورية التي خسرت كيليكية والاسكندرون، تلك هي سورية التي فقدت فلسطين واذنت بقيام دولة يهودية فيها !
بينما كانت الخطط الاجنبية توضع لسلخ اجزاء من سورية عن جسم الارض السورية الام ولاستعمار سورية واستعبادها كانت تثار في سورية قضايا الاكثرية والاقلية الدينيتين وكان السياسيون " الوطنيون " يظهرون مهارتهم الفائقة في استغلال النعرات الدينية لمآربهم الخصوصية ولتوطيد نفوذهم وكانت الاطماع الاجنبية الاستعمارية سريعة الادراك للحالة النفسية السورية وسريعة العمل للانتفاع منها فغدت فكرة الدولة الدينية في اوساط الشعب، وعجل " الانتداب " الفرنسي في انشاء دولة للمسيحيين ودولة للدروز ودولة للعلويين، وكاد ينشيء دولة مسيحية ثانية للمسيحيين الآشوريين . واستغل الاستعمار الاجنبي، الى جانب ذلك، الخصومات العرقية من " عربية " وشركسية وكردية وآشورية و " فينيقية " المختلطة اختلاطاً شديداً بالحزبيات الدينية .
بالاحقاد الدينية والاقتتال على الجنّة السـماوية واجهنا مشـاكل حياتنا القومية . ولا تزال مدارس التقوى والورع عندنا تغذي عقول ناشـئينا بالدروس المسـهبة عن الفرق بين " النبي " و" الرسـول " والفروق بين مراتب الانبياء والرسـل ومَن منهم يتقدم البقية عند الايذان بدخول السـماء يوم القيامة والحشـر وكيف ان اول واجب على كل متبع نبياً او رسـولاً ان يحارب في سـبيل نبيه او رسـوله وكيف يجب ان لا يفكر بشـيء إلا بالحظوة بالجنة مسـتشـهداً في سـبيل دينه وكيف ان كل مذهب مخالف لمذهبه هو كفر بالله فالارثوذكسـي هو للكاثوليكي هرطكي وبالعكـس والعلوي هو للسـني خارج عن حقيقة الدين وبالعكـس الخ .
هذه هي القضايا التي تكوّن مدار حياة سورية القديمة الرجعية. فالحرب لا تعني إلا اقتتالاً على السماء . وكل قضية غير قضية دخول السماء لا محل لها في نفسية القرون الوسطى التي لا تزال مسيطرة في سورية اللاقومية اجتماعية . والبلبلة البعيدة هي في ان هذه النفسية لا تكتفي بتسكعها وتخبطها بل تتعدى ذلك الى محاربة كل فكرة تريد تحويل الناشئة عن قضايا الاقتتال على السماء الى قضايا الاتحاد لربح الارض !
قد حاربت النهضة القومية الاجتماعية الاستعباد الاجنبي وساعدت الظروف على جلاء قواته المسلحة عن ارضنا ولكن المعركة مع الحزبية الدينية والنفسية الرجعية لا تزال دائرة بشدة وقبل ان تنتهي هذه المعركة بفوز المبادئ القومية الاجتماعية فمعارك سورية القومية ستظل معارك اخفاق وخسران امام قضايا الوجود المنتصرة على قضايا الغيب .
ما دمنا نقتتل على السماء فلن نربح الارض !
النهضة القومية الاجتماعية تقول : ان قضايا السماء تحل في السماء . انها قضايا بين الفرد والله لا بين جماعة وجماعة فلا فائدة من اقتتال جماعة وجماعة لاجل السماء ما دام الله هو الديان الذي يقضي يوم الحشر وما دام الناس قد اسلموا لله .
لا يمكننا ان نربح الارض ونحن نقتتل على السماء . والشواهد الاخيرة خير دليل على صحة هذا المذهب فلكي نربح الارض يجب ان نتقاتل صفوفاً موحدة في سبيل الارض وبربحنا الارض نربح الجنة !
لا خير ولا ارتقاء بلا ارض . والاذلاء يضمحلون امام الاعزاء والذين يكسبون الارض يهلكون الذين لم يعرفوا ان يحافظوا عليها . الوصول الى السماء يقتضي ارتقاء لا انحطاطاً . السماء بالعز لا بالذل، فصونوا بلادكم عزيزة واحفظوا ارضكم ففيها السماء والخلود !
القومية الاجتماعية توحدكم وتقودكم الى النصر والفلاح والعز ايها السوريون !
كل شيء – بيروت – العدد 108 - 22-04-1949
الاعمال الكاملة ج 8
|