بعد نكبة فلسطين العروبية سقطت عن باصرة الشعب الغشاوات التي أسدلتها عليها النايورجعية المتعربة ففتح عينيه، وهو بعد في ذهول النكبة، على خيبة لم يعرف لها مثيلاً في سابق تاريخه الحديث، فأدرك مصدر نكبته وعرف أنه ليس اليهود بقدر ما هو أصحاب القضية الفاسدة والمبادئ الميتة من الشعب السوري نفسه وأصحاب الغايات المتضاربة في الحكومات السورية وفقدان الهدف الواحد في كل العلمية الفلسطينية الفاصلة. فأخذ المنكوبون الفلسطينيون يلعنون الذين غرروا بهم وخدعوهم، وانكشف أصحاب قضية "القومية العربية والأمة العربية والوطن العربي" انكشافاً لا سك فيه. فاسقط في أيديهم وتولاهم فشل عظيم وأخذوا يبحثون عن حيلة تنقذ موقفهم أمام الرأي العام. ولم يعتموا أن وجدوا الحيلة المدهشة: أن يوضع الوزر على الحكومات وبعض القادة وانتهى المشكل.
صحيح أن رجال الحكم في الدول السورية هم منتخبو الفوضى السياسية والاقتصادية الهائلة التي تتخبط فيها الأمة السورية. ولكن هل كل الوزر وزرهم؟ ألا يحمل أصحاب القضية الباطلة والتفكير النايورجعي نصيبهم من الإخفاق؟
لا يمكن المسؤولين من تكوين العقلية التراجعية والنفسية المرضية في سورية التنصل بهذه المسؤولية بهذه الطريقة اليهودية من أوزارهم وتبعات أعمالهم.
وهكذا كان يفعل اليهود قديماً، فقد كانت لهم عادة تذكرها التوراة، وهي أن يجلبوا تيساً من الماعز يحملونه كل أوزارهم ويطلقونه في البرية ليذهب إلى "عزرائيل"! بهذه الطريقة الهينة كان اليهود يتخلصون من آثامهم. وبمثل هذه الطريقة الهينة يظن أصحاب النفسية النايورجعية ومنشئو سفسطتها أنهم يتمكنون من التخلص من المسؤوليات التي اشتركوا هم ورجال الحكومات في حملها فلما وقعت الكارثة التي قلت للشعب من زمان بعيد، من سنة 1925، أنها لا بد واقعة بسبب فساد القضية الوهمية التي أوجدتها النايورجعية، ابتدأ يظهر نبوغ النايورجعيين في ابتكار أساليب التنصل اليهودي الطريقة. وكان أول أعمالهم نبوغهم الباهر أنهم أعلنوا أنهم رأوا الكارثة بعد وقوعها!
أليست رؤيا الكارثة بعد وقوعها عملاً عظيماً؟ بلى! فيكفي أن يتفرد النايورجعيين بالطنطنة برؤيتهم الكارثة بعد وقوعها ليكون ذلك دليلاً قاطعاً على عبقريتهم العربية أو على ثقافتهم المتلبننة تلبنناً أفرنسيا أو تلبنناً استعمارياً بالجملة! وإن أعظم نوابغ النايورجعيين هو ذاك الذي حاول أن يسبق الجميع بإعلانه أنه رأى الكارثة بعد وقوعها!
والعمل العظيم الذي قام به عباقرة النايورجعية هو انتقادهم الخطط المشوشة والأهداف المغيبة والاستعدادات الاعتباطية التي كانوا هم في طليعة مؤيديها ومادحي الحكومات والشركات السياسية على تهيئتها وإعلانها والسير بها. ففجأة رأى نوابغ عجز الرأي ومرض البصر، أن الخطط والأهداف والاستعدادات التي وصلت بالأمة السورية إلى كارثة فلسطين الهائلة لم تكن خططاً وأهدافاً واستعدادات صحيحة! فأي إبداع في العالم يقدر أن يضاهي هذا الإبداع النايورجعي العظيم!
كل هذا يتقلص ويصبح لا شيء أمام آخر ما توصلت إليه العبقرية النايورجعية بإنشائها قضية قومية جديدة هي أعظم ما يمكن أن يصل إليه إبداع عقل بشري نايورجعي. ألا وهي القضية الهللخصبية! فقد توصل العقل العبقري النايورجعي، بعد مجهود عظيم إلى ابتداع هذه القضية الجديدة التي تمتاز بأنها جديدة كل الجدة، فهي ليست قضية "الوحدة العربية" ولا قضية القومية السورية والأمة السورية بل قضية القومية الهللخصبية والأمة الهللخصبية فليس فيها عدول عن "القومية العربية" ولا إتباع للقومية السورية وتعلق بها! فلا يمكن أحداً أن يعير العباقرة العروبيين بأنهم اعتنقوا مبدأ القومية السورية وتخلوا عن العروبة الوهمية العاجزة الاتكالية، ولا بأنهم أدركوا صحة قضية الحزب السوري القومي الاجتماع بعد خيبتهم من قضيتهم الوهمية الباطلة!
المسألة العظمى التي اضطر الإبداع العروبي إلى مواجهتها وحلها هي: كيف يمكننا الرجوع عن القضية "القومية" الوهمية الباطلة بدون أن نظهر أننا رجعنا، وكيف نتجه نحو القضية القومية الواقعية – نحو القومية السورية ـ بدون أن نعلن أننا اتجهنا نحوها وبدون أن نحتاج إلى الاعتراف بصحة الحركة السورية القومية الاجتماعية التي ما فتئت تدعونا منذ أول نشأتها إلى قوميتنا الحقيقية؟
هذه هي المسألة الفكرية العظمى التي اضطر العقل النايورجعي إلى مواجهتها وحلها بما يتفق مع كبريائه وعصمته عن الغلط. فأكتشف التعريف الجغرافي الذي أطلق على شكل الأرض السورية الخصبة المنحنية القوس في قوس كبير فوق الصحراء العربية. ولعل العالم التاريخي بريستد هو الذي أطلق هذا التعريف الجغرافي "الهلال الخصيب" على سورية الطبيعية فتلقفه العروبيون كما يتلقف اللاعب الكرة لأنه يحل لهم مشكلة ابتلاع بلاد تاريخية عريقة بشعبها وثقافتها فلا تعود توجد سورية أمامهم، بل هلال خصيب. والهلال محبوب النايورجعية العربية كما هو محبوب الصليب للنايورجعية التلبننية. فهل أبدع من محو بلاد وإنشاء أرض هلالية خضراء تخلق لنا فيها النايورجعية من فنون القوميات ما لا تعلمون؟!
أتم النايورجعيون عملية خلق "الهلال الخصيب" ولم يحتاجوا إلى الحزب القومي الاجتماعي وتعاليمه في شيء. وهذا أهم شيء في العملية كلها، أن يقال أن قضية هذا فازت في معركة الحق والباطل ـ معركة الواقع والوهم!
مهما كانت عقولنا قاصرة في فن خلق الأوطان ولإبداع "القوميات" فإننا نرى أن أصعب مشكلة ستواجه العقلية النايورجعية بعد عملية خلق البلاد الجديدة هي مشكلة النسبة القومية إلى الهلال الخصيب. هل تكون مركبة فيقال "هللخصبيون" أما تكون بسيطة فيقال أما "هلاليون" أو "مهللون" وأما "خصبيون" أو "متخصبون" ولكننا نثق بمقدرة العقلية النايورجعية على التغلب على كل أمر عسير فلا يبعد أن تجد هذه العقلية الحل في الاحتفاظ "بالقومية العربية" في الهلال الخصيب فلا يكون للقطيع البشري السائم في الهلال ما يميزه إلا ما كان من "لون محلي" قد يكون الأخضر بالنسبة إلى دلالته على الخصب!
أيها النايورجعيون "القوميون"!
لا مهرب من الواقع وليس أفضل من الوجود ولا أبدع من الحقيقة! فتعالوا إلى الحقيقة التي أعلنتها الحركة السورية القومية الاجتماعية ـ الحقيقة الذاتية التي لم تـُصنع بإرادة أجنبية ولا بغاية خصوصية!
إن سورية الطبيعية التاريخية أفضل من مرعى الهلال الخصيب. وأن السوريين أفضل من الهللخصبيين! نحن سوريون لا هللخصبيون!
وإن الاعتراف بما أعلنته الحركة السورية القومية الاجتماعية خير من المكابرة في الحق. فهذه الحركة هي من الأمة وللأمة.
إن بناء النفوس في النهضة السورية القومية الاجتماعية ينقذ سورية من الفوضى والتفسخ الداخلي وينهض بسورية وبالعالم العربي.
عن "كل شيء" العدد 100 تاريخ 25 شباط 1949
|