إن من أشد الأسف ان تكون العقيدة أُهملت بالكلية بعد سفر الزعيم بسنة وأن لا تكون المؤسسات الحزبية العليا تنبهت الى أن معرفة العقيدة معرفة صحيحة هي أول ضرورة نفسية للقوميين الاجتماعيين وأنها أول الأمور الثقافية والاذاعية التي كان يجب أن تعنى بها كل العناية لتحقيق هدف إنشاء جيل جديد ينظر الى الحياة والكون والفن نظراً جديداً – ذلك الهدف وضعته تعاليم سعادة مطمحاً عظيماً في نفوس القوميين الاجتماعيين.
رفيق واحد قدّر هذه الحاجة وعوّل على الاضطلاع بهذه المهمة في السنة الأولى لسفر الزعيم هو الأمين السابق فخري معلوف الذي قرر، بصفته رئيساً لدورة الندوة الثقافية عام 1938 – 1939، تدريس كتاب "نشوء الأمم" فصلاً فصلاً في الندوة طوال ذلك العام. ولكن هذه المهمة الجليلة توقفت بسفر الرفيق المذكور إلى أميركانية حيث أخضعه ابتعاده عن المجتمع القومي الاجتماعي ومساق دراسته الفلسفية، التي كان قد أخذ توجيهات أولى فيها على يد الدكتور شارل مالك، لقواعد نظر ديني في الفلسفة أغرقته، بمساعدة ظروف عديدة، في غمرة اعتقادات دينية أوصلته هو أيضاً إلى الشذوذ عن العقيدة شذوذاً أدى إلى توقيفه عن ممارسة حقوق العضوية.
بعد تلك المحاولة الأولى التي قام بها الأمين السابق فخري معلوف في الندوة الثقافية طُويت العقيدة وبقيت كامنة في نفوس المؤمنين بها بإحساس واضح صحيح عند الذين لم يكونوا من المشتغلين بالفلسفة وقضايا الفكر ليضطلعوا بمهمة شرحها وتبيان حقيقتها الفلسفية العظيمة. وكان من جرّاء ذلك أن بعض طلبة الفلسفة من الرفقاء تُركوا بلا تعليم عقدي ليقبلوا تعاليم المدرسة العقدية الأولى التي يدخلون لتعلّم الفلسفة فيها، فدرسوا المذاهب الفلسفية الكلاسيكية وما عُرض عليهم أو وجهوا اليه من مذاهب اخرى إلا الفلسفة القومية الاجتماعية. فهذه لم يكن بقربهم من يهتم بتوجيههم إليها فلم يكن لها مكان في أفهامهم وكوّنوا نظرتهم، أولياً او نهائياً، على غير نظرتها وأصولها. ومن البديهي ان يكون انتاجهم، في هذه الحالة، في غير اتجاهها وفي غير نظرتها. وإن من هذا الانتاج الذي يحمل تناقضاً أساسياً مع عقيدتنا ما قد ذاع وانتشر بين الرفقاء القوميين الاجتماعيين بواسطة الأجهزة الحزبية، حتى ظن كثيرون أنه توجيه جديد للحركة القومية الاجتماعية من صميمها، وكثيرون منهم، ممن يلاحظون بعض الفوارق، يتساءلون عن مدى قبول المنظمة والرفقاء لمثل هذا الاستحداث العقدي.
لا مشاحة في أن العقيدة لا تكون عقيدتين، بل واحدة وأن الحركة لا تكون حركتين، بل واحدة، وأن الزوبعة لا تكون زوبعتين، بل واحدة. لذلك، وجِبَ أن نوضح للرفقاء مسائل كثيرة في العقيدة القومية الإجتماعية تساعدهم على فهمها، وعلى تجنب الأخذ بما قد يخالطها في الأدب ولا يأتلف معها في الأساس والغاية:
نعرّف العقيدة بأنها قومية إجتماعية فهي قومية لأنها تقول بالأمة والولاء القومي. وهي إجتماعية لأن غايتها الإجتماع الإنساني- المجتمع، وحقيقته، ونموه وحياته المثلى. والمجتمع الاكبر والأمثل هو الأمة، وقد جاء في التعاليم: "أمة واحدة - مجتمع واحد".
من هذا الإيضاح الأولي، ندرك أن عقيدتنا تقول بحقيقة إنسانية، كلية،اساسية هي الحقيقة الإجتماعية: الجماعة، المجتمع المتحد. فالإجتماع للإنسان حتمي لوجوده، ضروري لبقائه وإستمراره والمجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية. والقيم الإنسانية العليا لا يمكن أن يكون لها وجود وفعل إلاّ في المجتمع، فمتّجه القيم كلها هو المجتمع_هو مصدرها وهو غايتها.
كل القيم الإنسانية هي قيم إجتماعية. والإجتماع ليس شيئاً مقرراً بالإختيار من قبل أفراد ينشأون خارج المجتمع - بلا مجتمع - نشوءاً مستقلاً ثم يختارون الإجتماع إختياراً فيحتكون بعضهم ببعض، بدافع إختيارهم، ويقررون إنشاء مجتمع يتابعون فيه الإحتكاك الشخصي بعضهم ببعض، ويتفقون فيه على التعاون على حاجيات الحياة وأسباب العيش (راجع "نشوء الامم" ص 143 )، كلا، ليس الإجتماع شيئا من ذلك. إنه ليس حادثاً إختيارياً.
الحق والخير والجمال والحقيقة هي قيم إجتماعية، متحدية، لا قيم فردية. لا الكثرة ولا القلة تقرر الحق وتفرضه فرضاً. وإذا لم تكن الكثرة ولا القلة أساس تقرير الحق، فبالأولى أن لا يكون الفرد أساس تقرير الحق وذا السلطان لفرضه. إن مسألة الحق ليست مسألة عددية، بل مسألة إنسانية إجتماعية. الحق قد يبتدئ بفرد، وقد يبتدئ بعدد قليل ضئيل وقد يبتديء بعدد كثير. ولكن شرط الحق في الإنسانية، ليكون حقاً، أن لا يعلن نفسه ساعة وختفي وأن يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه - أن لا يكون حقاً عددياًـ بل حقاً إجتماعياً لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يمتد في المجتمع بلا حدود- في المتحد نفسه في تعاقب أجياله. الحق ليس فردياً ولا عددياً. فهو لا يموت مع الفرد ولا يفنى بفناء العدد. إن الحق الإجتماعي، يظلُّ قائماً ما ظلّ المتحد قائماً.
المسيحية إبتدأت بفرد وكذلك المحمدية وكذلك القومية الإجتماعية. وكلها إستغنت بهذه البداءة عن القلة أو الكثرة معاً ولكنها لم تستغن عن المجتمع الذي له وجدت تعاليمها. وكل حق وخير وجمال، تُعبّرُ عنه تعاليم كل منها، هو إجتماعي، وللمجتمع، ولا يقوم إلاّ بالمجتمع.
الحق إنتصار على الباطل. ليس كل ما أدعى أنه حق هو حق. الجعجعه بذاتها لا تكون حقاً.
الحق إنتصار على الباطل في معركة إنسانية وليس في معركة غيبية، أو إلهية، تجري وراء هذا العالم، ولا يشترك فيها الإنسان - المجتمع الإنساني. المتحد، إذن، هو الحقيقة الإنسانية الكبرى، حقيقة القيم الإنسانية العليا وإستمرارها، فيه يجد الوجود الإنساني حقيقته وحقيقة إستمراره. ليس المجتمع مجرد مجموع عددي من الناس. إن المجتمع غير المجموع. إن المجتمع أعمق بكثير من المجموع العددي وأسمى بكثير منه. إنه أعلى، بما يُدرك قياسه، عن نظرة تحسبه مجرد عدد من الناس. الأفراد، في المجتمع، يأتون ويذهبون، يكملون آجالهم ويتساقطون تساقط أوراق الخريف. ولكن الحق لا يذهب معهم، بل يبقى، لأن الحق إنساني، والإنساني إجتماعي. فهو يبقى بالمجتمع وفيه.
إن عقيدتنا إجتماعية، تنظر الى الإنسان من زاوية الحقيقة الإنسانية الكبرى - حقيقة المجتمع، لا من زاوية الفرد، الذي هو، في حد ذاته، وضمن ذلك الحد، مجرد إمكانية إنسانية.
النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية – بيروت المجلد 1- العدد 2-1-12 -1947
الاعمال الكاملة ج 7-
|