وكان قصد القيادة القومية الاجتماعية العليا تشكيل ما لا يقل عن كتيبة كاملة لتبتدئ العمل بمهمات تكلف بها لمساندة القوات الأخرى على أن تشكل كتائب أخرى تتبعها إذا حصل نجاح في تسليح الكتيبة الأولى. ولكن ذهبت جميع المحاولات التي قامت بها عمدة التدريب، وعلى رأسها الأمين أديب قدورة أدراج الرياح. فقد اتصل العميد مراراً "بمكتب فلسطين الدائم" وسأل عمته السيدة ابتهاج قدورة مساعدته للوصول إلى بغيته. وحصلت اتصالات مداورة مع بعض أشخاص الحكومات. والجواب كان دائماً: "لا سلاح للقوميين الاجتماعيين". وقد حدث في وقت من أوقات المعارك أن قيادة جبهة القدس عرضت على منفذية القدس العامة تسليح فرقة قومية اجتماعية تتخذ موقفها في القدس. فأتى رسول مستعجل من المنفذية وخابر مركز الحزب فقبلت القيادة القومية الاجتماعية العليا العرض فوراً وعاد الرسول بالقبول المبدأي وطلب التفاهم على التفاصيل فلم! تمض أيام معدودة حتى جاء رسول ثان هو ناموس منفذية القدس العليا، الرفيق عبد اللطيف كنفاني، يقول أن قيادة القدس عدلت عن التسليح بحجة أن لا سلاح لديها!
مع ذلك فقد انخرط قوميون اجتماعيون عديدون في الجيوش المحاربة وحاربوا في كل الميادين. كانوا المتطوعين الشعبيين الوحيدين الممتازين بنظامية وتفان الواجب شهد بها كثيرون من الذين عاينوا أعمالهم من رؤساء "اللجان القومية" والقواد. ولما دخل اليهود حيفا وعكا مزودين بلائحة بأسماء عدد من القوميين الاجتماعيين الذين أبلوا في المعارك ضدهم ليقبضوا. وقد تمكن أكثر هؤلاء الرفقاء من النجاة من أيدي اليهود بدقة نظاميتهم وخططهم. وفي نواحي اللد والرملة وجدت فرقة صغيرة دعيت فرقة الزوبعة شكلها الرفيق المجاهد مصطفى سليمان قامت بأعمال حربية تذكر ولم تجد أي تأييد من الجيوش لتغطية انسحابها فوعدتها بالمساعدة لتثبت في أماكنها وانسحبت من ورائها وعن جوانبها وتركتها منكشفة لهجوم العدو وطعاماً لنيرانه! وقد فقدت هذه الفرقة الصغيرة عدداً من أفرادها. وإن عدد الضحايا القوميين الاجتماعيين عدد غير قليل، لأنهم كانوا دائماً في قلب المعارك.
إن "رجال الكلام والجعجعة بالمبادئ والتنعم بالدفء في سرائرهم" هم في الحقيقة رجال النايورجعية العروبية والتلبننية الذين لم يقدروا أن ينظموا غير الطائفيات من نجادة سنية وطلائع شيعية وفلنج مارونية وغساسنة ارثوذكسية وغيرها في كل مكان من سورية الطبيعية، والذين لم يقدروا أن يفكروا بغير الحروب الدينية فكان الجيش الذي فكروا بتشكيله جيش حرب دينية، وكانت نداءاتهم إلى المحاربين في فلسطين تقول: "أيها العرب المسلمون (المحمديون)" فلم تكن عقليتهم النايورجعية تسمح لهم بنظرة قومية صحيحة خالية من النعرة الدينية وظنوا أنهم بإدخال واو العطف على "المسلمون" يصلون بنايورجعيتهم إلى الانتصار. فأجاب النايورجعيون المتلبننون على هذه النداءات بالقول في أوساطهم: "لا يعنينا أمر فلسطين كما لا يعنينا أمر الاسكندرونة" وقالت رجعيات أخرى علوية أخرى وغيرها أقوالاً تدل على فهمها الواقع الرجعي في حرب فلسطين!
بينما يقول السيدان النصولي أن العوامل الداخلية لخسارة قضية فلسطين هي "من رجال الكلام والجعجعة بالمبادئ" وهم كل رجال القومية العربية وجيوش الخمسين مليون عربي" يعترف السيد محي الدين النصولي بأن النايورجعين العروبيين واجهوا حرب فلسطين "بدون استعداد مادي". فلماذا لم يستعدوا الاستعداد المادي وقد أنذرتهم التطورات الفلسطينية مراراً وعالجوا المسألة الفلسطينية نحو ثلاثين سنو؟! أليس لجهلهم القضايا القومية وكيف تكون الحروب القومية؟ ما هو عذرهم؟ هل أن زعماءهم لم يطونوا لائقين للزعامة وكما تكونون يولى عليكم؟ أم بسبب نقص "الدولار اليهودي والسلاح الروسي والدبلوماسية الأميركانية والبريطانية في الشرق"؟
أما قول السيد محيي الدين النصولي: "وكان فيهم النصراني والمسلم (المحمدي) اللذان امتزجت دماؤهما في الصراع القائم فوق تربة فلسطين" فماذا يقصد به؟ هل يعني أنه مع أن العروبة النايورجعية المنادية "بالقضية العربية" لم تكن تمثل قومية صحيحة في سورية فإن المسيحيين في فلسطين هبوا للدفاع عن وطنهم وديارهم بالاعتباطية التي "درستها وخططتها" العقلية النايورجعية وإن عدداً آخر من غير المحمديين سلكوا التخطيط الاعتباطي عينه الذي وضعته العقلية النايورجعية للمحمديين معتمدة على فتوى الجهاد وفوضى "القومية" النايورجعية؟
إن استنتاج السيد محي الدين النصولي النايورجعي الباهر يشبه كل الشبه استنتاج أخيه السيد أنيس النصولي في قوله "نسيت أن العروبة كانت الأساس الأول للحركة الاستقلالية في مصر ولبنان وسوريا والعراق والحجاز في القرنين التاسع عشر والعشرين. فهما يظنان أنه لولا (العروبة) لما خفق في سورية قلب بحب الحرية والاستقلال!
إن حب السوريين الحرية والاستقلال وطبيعة السيادة فيهم من عهد دولهم الأولى العظمى يدفعانهم إلى طلب السيادة بأي شكل من الأشكال. والعروبة كانت شكلاً لا أساساً لمحاولة السوريين الأولى النهوض والتحرر من الأتراك واستعادة السيادة.
إن العروبة كانت الشكل المروض على السوريين أو بتعبير السيد النصولي (كانت غصباً عن السوريين لأن اليرموك كانت باب العرب والمدنية العربية السورية ولكل شواطئ المتوسط)! فهذه (القومية الغصبية) لا يمكن أن تكون تعبيراً صحيحاً عن الوعي السوري القومي. وبعد فإن اليرموك كانت باب العرب لسورية ولكنها لم تكن قط باب (المدنية العربية). إن مدنية الأقوام التي دخلت نطاق الإسلام المحمدي، التي تطلق عليها أحياناً التسمية اللغوية فيقال (المدنية العربية) هي مدنية السوريين والفرس والأفريك في اللغة العربية. وتتجلى (القومية العربية الغصبية) في بيان السيد محي الدين النصولي فيقول الجامعة العربية هي (نتيجة تطور طويل شامل للشعوب العربية (لا للشعب العربي إذ يعترف النصوليان أنه لا يوجد شعب عربي واحد، بل شعوب ومن هذه الشعوب ما له وعيه القومي وشخصيته الاجتماعية والسياسية فهو أمة) وبالتالي للأمة العربية (على أساس سفسطة أن الأمة غير الشعب وإن! ها أصل والشعب فرع) وولادة شاقة، وحاجة ملحة تماشي الزمن، زمن التكتل وتنسيق الجهود وخلق عالم واحد يدين بالأخوة والديمقراطية (الديمكراتية الغصبية!) بالحرية والتساهل.
فانظر أيها القارئ السوري العزيز، كيف تصير القومية العربية دعوة إلى خلق عالم جديد واحد يدين بالأخوة الديمكراتية، بالحرية والتساهل! فلا قومية سورية ولا قومية عربية ولا بلوط بل قومية عالمية! وقد حل السيد محي الدين النصولي الخلاف بين قومية النهضة السورية الاجتماعية و (قومية) الفوضى العربية (الشعوبية) بالدعوة إلى (القومية العالمية) التي يريد تحقيقها (المواطن العالمي) الأميركاني المدعو هاري داوس الذي يصفق له الفرنسيون الذين خمدت فيهم روح النهوض في فرنسة فيطرب لتصفيقهم القومي العربي العالمي في سورية السيد محي الدين النصولي! هذا التفكير (العربي القومي) هو الذي يقول فيه السيد أنيس النصولي أنه تفكير (كما يقول المنطق) وإنههو وجميع الذين يفكرون هذا التفكير (المنطقي) سيظلون يحيون (بظل العروبة الديمكراتية النيرة) (ديمكراتية العالم الواحد والقومية العالمية النايورجعية العروبية!) وبهذا التفكبر (المنطقي) يقول السيد أنيس ! النصولي (نحن نكره الديكتاتورية ونكره أنظمتها ونكره عقلها الضيق وعبوديتها الفكرية). ومع ذلك فإننا لم نره ولا مرة واحدة يحارب قول العالم التقدمي الرجعي جمال الدين الأفغاني (لا يصلح الشرق إلا مستبد عادل).
إن الفوضويين والنايورجعيين يكرهون استبداد الحق العادل المصلح لأنهم يريدون (القومية الغصبية) استبداد الفوضى!
تلك هي قيمة أفضل ما ولده التفكبر النايورجعي العروبي. أما كلمة صاحب (مساء الخير) التي يقصد بها صاحبها أن تكون رداً مباشراً وقيمة كلمة الدكتور نبيه فارس، التي قصد بها أن تكون رداً مداوراً، فهي قيمة سقط المتاع! ورد أنيس النصولي الثاني على مقال الزعيم (والانعزالية اللبنانية أفلست!) فهو متابعة (التفكير المنطقي) الذي بنى عليه مقاله الأول!
يختلف رد السيد محمد البعلبكي عن ردود جماعة (إلى أنطون سعاده...) و (مساء الخير) و (مفكرة نبيه فارس) بخروجه عن خطط (التفكير النايورجعي المنطقي) وتوخيه التقدير والتحليل. فهو يغلط بتسميته الوطن السوري الفيزيائي (بالعالم السوري) ويغلط باستنتاجه أن إفلاس السوريين العروبي العقلية قد يعني إفلاس مبدأ القومية السورية، لأنهم لم يعملوا بهذا المبدأ. فهذا المبدأ هو لإنقاذهم من التخبط المضلل في غير قوميتهم الصحيحة التي نكبوا لشذوذهم عنها، لا لعلمهم بها! وهو يغلط أيضاً بظنه أنه لا علاقة بين قضيتي القومية السوري الصحيحة و(القضية العروبية) الموهومة التي تنادي بها النايورجعية، ومسألة فلسطين وغيرها من المسائل القومية.
ولكننا نرحب برصانته والدعوة إلى توحيد الجهود على أساس الحقيقة والصحة.
بيروت 5 شباط 1949
وما يجدر ذكره أن النايورجعيين أوقفوا حملتهم إثر نشر هذه الرسالة المفحمة، وتابعت "كل شيء" نشر مقالات الزعيم.
|