(إيضاح)
منذ أن انهار، بعامل الفتح الرومي (الروماني) النظام السوري السياسي والاجتماعي والحربي، الذي تطورت الحياة السورية نحوه منذ القدم وتجلى في الدولة السورية السلوقية التي صارت إمبراطورية عظيمة، بعد توحدات سياسية سابقة أقل متانة وأسرع عطباً، تعرض مصير سورية لتقلبات كثيرة في أجيال عديدة كان الفاعل الأقوى فيها دائماً إرادة الفاتح الجديد وسياسته فجزئت البلاد ثم وحدت ثم جزئت حتى ضاعت حقيقتها وخرجت عن دورة حياتها عن محورها وتراكمت على مخلفاتها طبقات الأرض وصار الباحث عن حقيقتها يحتاج إلى تنقيب دقيق واسع وإلى تحر للتركيب ألأتني والنفسي والوضع الجغرافي والتسلسل التاريخي وإلى تحرير التأويل المتعددة من الأغلاط التي بعدت عن الحقيقة وغرضها. وهذا العمل، لعمري، أشبه شيء بإنشاء الأمة السورية إنشاء جديداً لأنه يعني بعثها من مدافن التاريخ وتأسيس حقيقتها تأسيساً واضحاً كاملا لا يعود يشذ عنها وعيها ولا يقوم على فيرها وجدانها. وهذه مهمة جبابرة فإذا رافق هذا الغرض إنشاء نهضة تعبر عن حقيقة الأمة وشخصيتها وتغير مجرى تاريخها ومصيرها ازدادت المهمة ضخامة ومشقة وخطورة.
بوعي كامل للصعوبات العظيمة الملازمة لطبيعة العمل أخذت على عاتقي هذه المهمة العظمى، وحالما وضحت لي الحقيقة في خطوطها الكبرى العريضة وطدت عزيمتي على إنشاء النهضة السورية القومية الاجتماعية التي جعلت غايتها إحياء حقيقة الأمة السورية وشق طريق وجودها وارتقائها وإقامة نظام اجتماعي جديد فيها، فوضعت هذه المبادئ التي عينت فيها حقيقة الأمة السورية وحقيقة الوطن السوري وحقيقة النفسية السورية وباشرت الدعوة إليها وتعليمها في أحاديث وخطب ومحاضرات لم يدون إلا النزر اليسير منها. وفي الوقت عينه كنت أتابع التنقيب والتمحيص والتحري لإكمال الحقيقة. ولكن عملي بطبيعته المعقدة، يستمر في جو هادئ مطمئن فحالا نشأت حاجات الحركة الإدارية والتوجيهية في مواضيع عديدة متشعبة، وحالا تعرض العمل لأخطار الجاسوسية الأجنبية. وبينما أنا أعد، إلى جانب العمل التأسيسي، الاجتماعي، السياسي، المواد لإعادة تركيب كيان الأمة وتقرير جميع تفاصيلها في كتاب خاص، فوجئت بالاعتقالات الأولى التي كشفت أمر الحركة الناشئة وأوجدتها، في لحظة واحدة، تجاه الإرادات الأجنبية والاعتقادات الداخلية التي اجتمعت على محاربتها قبل أن تستكمل استعدادها، فتعرضت الحركة والقضية لأزمة كان يجب التغلب عليها بسرعة. هذه الحاجة الملحة جعلتني أهتم، في السجن، بإكمال الكتاب الأول من نشؤ الأمم، الذي كنت بدأته قبل الاعتقال، والسجن ليس بالمكان الصالح لمتابعة التحقيقات الأتنية والجغرافية والتاريخية، أنه لا يمكن من زيارة المكتبات العلمية والوقوف على المكتشفات الأخيرة واكتشاف حقائق ضائعة، فاضطررت للاقتصار على ما كنت بلغته قبل السجن فاستعنت به لإنجاز الكتاب الأول من (نشؤ الأمم) في مدة نحو شهرين ونصف، وقد دفعت المخطوطة كما ذكرت في مقدمة الكتاب، إلى الطبع من غير إعادة نظر وتنقيح، إذ لم يتسن لي ذلك، فبقيت بعض النقاط، من جراء ذلك، غير كاملة التحقيق، خصوصاً ما تعلق بالدولة السورية البرية البابلية والآشورية والحثية، وبالوضع الأرضي في تجويف الهلال السوري الخصيب وأسباب عمق التجويف في الأزمنة الإنحطاطية، الأمر الذي تداركته في ما كنت أعددته للكتاب الثاني من (نشؤ الأمم) المختص بنشوء الأمة السورية، ولكن سرقت الملاحظات الأولى من دار القضاء من جراء الاعتقال الثاني، فأعود الآن إلى الاهتمام بإعداده.
ولما ازداد الإلحاح على وجوب وضع التعاليم السورية القومية الاجتماعية في نص يحفظ حقيقتها وجوهرها وضعت في أثناء الاعتقال الثاني، الذي جرى ولم يم على انتهاء الاعتقال الأول سوى نحو شهر ونصف، شرح المبادئ وأرسلته من السجن ليطبع ولتعتمده الحركة في رد التهجمات والمعتقدات الدينية الاجتماعية في القومية، ولوضع حقيقة الأمة والقضية القومية الاجتماعية في نص واضح يحفظ بقاءها واستمرارها، فكان الشرح مستعجلاً وكانت الظروف التي وضع فيها عنيفة وضغط العراك عنيفاً، ومع أن الشرح في نصه الأول، قد أدى الغرض فأنه تعرض للنقص عينه الذي تعرض له الكتاب الأول من (نشؤ الأمم)، إذ لم أكن قد بلغت التحقيقات الأخيرة للكتاب الثاني.
ولما كانت القضية قد أصبحت تقتضي اكتمال كليتها بسرعة كي لا تبقى أية ناحية من نواحيها ناقصة أو غير واضحة كل الوضوح، انتهزت سانحة طبع التعاليم (المبادئ والشرح) للمرة الرابعة لأنقحها وأكملها على أساس الطبعة الثالثة المنقحة في الأرجنتين، وقد أشتمل التنقيح على:
1- إكمال توضيح الحدود الشرقية الشمالية للوطن السوري التي كانت متروكة مفتوحة في متطرفها الشرقي.
2- إكمال توضيح الحدود الشمالية الغربية التي تشمل جزيرة قبرص التي هي جزء من الأرض السورية.
3- تصحيح النظرة إلى تجويف الهلال السوري الخصيب وأسباب عمقه.
4- .. تعديل النظر إلى الحروب السورية الداخلية بين الدول الجزئية التي رمت كل دولة منها إلى توحيد البلاد تحت سيادتها كالدولة البابلية الأولى والثانية والدولة الآشورية والدولة الحثية.
كل مقابلة بين النص المنقح والنص الأول ترى أن القضية القومية الاجتماعية وتعاليمها بقيت هي هي، وأن التنقيح أكمل الحقيقة وخلصها من بعض الشوائب الجزئية التي لم تسلم منها في الطبعتين الأوليين بسبب العجلة وضغط الظروف، من غير أي تبديل لها أو أصولها.
ولا بد من القول أن هذا التنقيح كان قد جرى من قبل في أحاديث وخطب تعليمية بعضها دُوّن وبعضها لم يدوّن، خصوصاً ما يتعلق بالمنطقة الشمالية الشرقية من سورية، منطقة ما بين النهرين (العراق) التي كانت داخلة من الأول ضمن تحديد الوطن السوري، ولكن حدودها وتخومها لم تكن معينة كلها لأن بعضها كان لا يزال تحت التحقيق التاريخي والأتني والجغرافي. ولي في هذا الصدد، تصريح واضح يعود إلى سنة 1936 إذ قلت جواباً على سؤال في محل العراق في قضيتنا: (أن العراق، أو ما بين النهرين، هو جزء متمم للأمة السورية والوكن السوري، وكان يشكل جزءا من الدولة السورية الموحدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى لو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية).
إن تعبير (الالتقاء بدجلة) في المبدأ الأساسي الخامس الذي ينص على حدود الوطن السوري، الذي أبدل في الطبعة الثالثة بتعبير (ضفاف دجلة) شمل، في الصحيح، المقصود بمنطقة مابين النهرين (العراق)، من غير تعيين دقيق لحدود المنطقة، وقد رأيت أن تركها غير محددة نهائياً يفسح مجالاً للشك ولذلك قررت إكمال تحديد حدود وطننا القومي في هذه البقعة، إكمالاً لجميع تفاصيل القضية السورية القومية الاجتماعية، وقد رأيت أن أفعل مثل ذلك في تفاصيل الحدود الغربية وأن أصرح بأن جزيرة قبرص هي جزء من الوطن السوري في الماء حتى لا يبقى أي شك في ما نعنيه (بالبحر السوري في الغرب).
لذلك يجب القول بصراحة لا تقبل الشك أن التنقيح تناول الضبط فقط في الحدود والتفاصيل وتثبيت الأساس وزيادة إيضاحه، وأن من المؤسف أن لا تكون الظروف قد سمحت لي بإكمال تفاصيل القضية السورية القومية الاجتماعية في الشرح الأول أو قبل اغترابي فمرت مدة طويلة والناس يتداولون الشرح غير المضبوط الذي أنشئ بسرعة شديدة في السجن.
إن هذه التعاليم المضبوطة في هذه الطبعة الرابعة هي الكاملة والتي يجب أن تعتمد.
المقر في 18 سبتمبر 1947
الزعيم
كتب هذا الإيضاح لكتاب التعاليم السورية القومية الاجتماعية، أثناء فترة التوقيف التي أصدرتها السلطة اللبنانية في أعقاب خطاب الثاني من آذار 1947.
|