على أثر تلك المقابلة نشأت بين الزعيم والدكتور مالك صداقة. واقترب الدكتور مالك بالفكر والروح من النهضة القومية الاجتماعية التي أوجدتها تعاليم سعاده واهتم كثيراً لها، ولما أنشأ نادي الأبحاث الفلسفية في الجامعة الأميركانية في أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938 صار الأمين السابق فخري معلوف وغيره من القوميين الاجتماعيين أكثر المقربين إليه، حتى أنه اعترف أكثر من مرة للأمين السابق معلوف أنه يرى في القوميين الاجتماعيين ميزة فكرية صحيحة ويجد فيهم أقوى عناصر الفكر. ولما قدم بيروت صديق أميركاني للدكتور مالك تخصص في الفلسفة والأدب اهتم الدكتور مالك بجمعه إلى الزعيم وقدم به في موعد معين ذات مساء إلى بيت معلوف حيث جرى بعد العشاء بحث فلسفي طويل كان الزعيم في جهة منه والدكتور الأميركاني (الذي لا يحضرنا اسمه الآن) والدكتور مالك في جهة أخرى. واستمر البحث إلى ما بعد انتصاف الليل. وفي ختامه قال المفكر الأميركاني للزعيم: "إنني لم أجد في جميع من اجتمعت بهم وناقشتهم من قبل ما وجدته في نظراتك وحججك من قوة البيان ودقة النظر ومتانة الفكر والحجة." وصار الدكتور مالك يقول: "يتضح أنكم تأملتم ملياً تأملاً عميقاً في هذه القضايا الأساسية".
كان موقف سعاده، في البحث المتقدم ذكره، قوله بضرورة المعرفة للحقيقة وعدم كفاية الوجود غير العاقل في ذاته لتكوين قيمة الحقيقة، لأن الحقيقة قيمة فكرية تحصل في العقل أو الضمير بواسطة المعرفة فقط. وكان موقف الدكتور مالك والدكتور الأميركاني أن الحقيقة تقوم بلا معرفة كالافتراض أن جبلاً في القمر قد اندك ببركان أو زلزال أو ما شاكل فلا حاجة لرؤية ذلك ومعرفته ليكون قد حصل. وقد وجه الدكتور مالك إلى الزعيم، فعلا هذا السؤال: إذا افترضنا أن زلزالاً حدث في القمر ودك جبلاًً فهل يكون الجبل اندك أو لا يكون؟" فأجاب الزعيم: "إن افتراض المجهول لا يكون حقيقة، فلا استطيع القول أن جبلاً في مكان ما اندك أو لم يندك، وأن زلزالاً حدث، إلا بالمعرفة الصحيحة فقط." وواضح أن موقف سعاده هو موقف الفيلسوف المعتمد العقل والمعرفة بينما موقف مناظريه كان موقف المعتمد الحدس والتخمين الذي يجعل افتراض المجهول قاعدة للحكم.
مع ذلك فإن مثل المحادثة المتقدمة لم يباعد بين الزعيم والدكتور شارل مالك، بل بالعكس قرب بينهما.
حوالي هذا الوقت ألقى الدكتور شارل مالك، في كلية البنات، الجامعة الأميركانية، خطاباً بالإنكليزية عنوانه "معنى الفلسفة" وقد قدم نسخة منه هدية إلى الزعيم. فقرأه الزعيم وكتب إلى الدكتور مالك الكتاب الذي نثبت نصه في ما يلي، وهو كتاب يعد وثيقة فكرية هامة تظهر اهتمام الزعيم بقضايا الفكر والتوجيه الفلسفي، وفيه من الملاحظات والإرشادات الدقيقة ما يجعل قيمته عالية جداً. وإن من حسن التقادير أن تكون نسخة كتاب الزعيم إلى الدكتور مالك، التي نسخها الأمين السابق فخري معلوف، قد بقيت محفوظة مع أوراق حزبية فنشرها الآن حرصاً عليها من الضياع وإظهاراً لقيمة الكتاب:
...
يتبع
النظام الجديد، العدد الأول مارس 1948 المجلد الأول.
|