أظهرنا في أعداد سابقة زيف "الاستقلال اللبناني" الموهوم وبطلان "القومية اللبنانية" التي أوحت بها سياسة التفريق الأجنبية. وأوضحنا أن "استقلال لبنان" و "لبنان الكبير" و "الجمهورية اللبنانية" هي أشكال أوجدتها وأعلنتها الارادة الأجنبية ولم تعلنها ارادة الشعب في لبنان. ولكن بعض المتلبننين الذي خدعتهم أساليب الدهاء السياسي الدبلماسي لا يزالون يتوهمون أن لبنان استقل فعلاً وصار ذا سيادة وان استقلاله جرى "بإرادة الشعب" بواسطة "مجلس نواب لبنان" ويحاولون بث هذا الوهم بين عامة السوريين من لبنانيين وشاميين وغيرهم ظناً منهم أنهم ينصرون الحقيقة وهم في الحقيقة لا ينصرون الا الباطل.
سمعنا بعض هؤلاء الواهمين يقولون ان "استقلال لبنان" معلن من الشعب وليس من الأجنبي. وسمعنا من يؤيد هذا الباطل بالقول: "في شهر آب من سنة 1920 عندما بويع الأمير فيصل في دمشق لأن يكون ملكاً على سورية اجتمع مجلس نواب لبنان وأعلن استقلال البلاد اللبنانية حرة بإسم الشعب فكان بعد ذلك أن الجنرال غورو في أول أيلول من السنة نفسها أعلن ارادة الشعب وأثبت بكلامه أن فرنسة ستسهر على هذا الاستقلال وتدافع عنه". فهذا الكلام الصادر عن نية حسنة لشخص مقتنع بأن هكذا تكون ارادة الشعب وهكذا يكون اعلان هذه الارادة هو من الحجج المثبتة مهزلة "الاستقلال اللبناني" وعدم وجود ارادة للشعب اللبناني في الأمر واليك البيان:
1- ان صاحب هذا القول يخبط في الحوادث والتاريخ على غير هدى. فمبايعة فيصل جرت في 1919 وليس 1920. وفي 24 يوليو سنة 1920 جرت معركة ميسلون التي أثبتت غدر فرنسة للمملكة السورية ومن ذلك التاريخ انتهى مُلك فيصل في سورية.
2- ان مسألة خطيرة كمسألة تقرير مصير شعب واستقلال بقعة من بقاع الأرض الآهلة ليست من المسائل التي من صلاحية "مجلس نيابي" البت فيها فهذه المسألة يجب أن يقررها الشعب نفسه بالاستفتاء او بإنتخاب مجلس انتخب على أساس الحالة الراهنة للعناية باستمرار الأمور الادارية حسب الوضع الذي كان قائماً. وجميع المجالس النيابية اللبنانية التي تعاقبت على مرسح التمثيل وباعت مصالح اللبنانيين ومرافق حياتهم للاحتكارات والمصانع الأجنبية برهنت على أنها لا تمثل الشعب ولا مصالحه.
3- ان مجلس ادارة لبنان نفسه رمى الى عدم الفصل تماماً بين لبنان والشام وبقية البلاد السورية ولذلك قبض الجنرال غورو على "ممثلي الشعب اللبناني" وأعلنهم خونة للشعب ونفتهم فرنسة الى جزيرة كورسكة ثم نقلوا الى باريس حيث تمكن أحدهم سليمان كنعان من الهرب واعلان الحقيقة للعالم فهل الشعب اللبناني هو الذي فوض الى الجنرال غورو القبض على نوابه؟
4- لا الشعب اللبناني ولا فرنسة ولا أحد في العالم اعترف بما أعلنه مجلس ادارة لبنان من استقلال او غير استقلال ولذلك لم يظهر شأن الانفصال اللبناني التام الا حين أعلن قائد جيش الاحتلال "لبنان الكبير". والمخدوعين من اللبنانيين يعيدون للارادة التي أعلنها القائد الأجنبي وليس للارادة التي أعلنها مجلس ادارة لبنان، الذي لم ينتخبه الشعب في لبنان لتقرير مصيره السياسي. ولو كان هنالك تمثيل لارادة الشعب ولو وجد الاحترام لتلك الارادة لما وقف القائد الأجنبي ليعلن شيئاً بالنيابة عن الشعب السوري في لبنان وغير لبنان، بل لكان الواجب يقضي على حكومة فرنسة نفسها أن تعلن اعترافها بما يقرره الشعب في استفتاء او بواسطة "مجلس تأسيسي" منتخب خصيصاً لهذا الغرض ولكان واجب تلك الحكومة يحتم عليها عدم التعرض لأعضاء "مجلس ادارة لبنان" الذي يسميهم صاحب الكلام المذكور آنفاً – "نواب الشعب اللبناني". ولو جرى شيء من ذلك لكان تاريخ " استقلال لبنان" الموهوم هو التاريخ الذي أعلن فيه نواب الشعب أعضاء المجلس التأسيسي ذاك "الاستقلال" وليس اليوم الذي أعلن فيه ممثل سلطة أجنبية تدوس حقوق الشعب وكرامته وتقبض على نوابه تلك المهزلة التي سميت "استقلالاً".
5- يقول صاحب النية السليمة المنخدع ان الجنرال غورو "أعلن ارادة الشعب". اذن فالمدافع عن "استقلال لبنان" هو نفسه يعترف بأن ممثل السلطة الأجنبية أدعى لنفسه التكلم بإسم اللبنانيين وأقام نفسه نائباً عنهم من غير أن يستفتيهم في هذه النيابة ومن غير أن ينتخبوه لها. وفي هذا الغاء لنيابة "نواب الشعب". فهل هكذا تكون ارادة الشعب وهكذا يكون التعبير عن ارادة الشعب؟
6- ان السلطة الحقيقية التشريعية والتنفيذية بقيت في يد السلطة الأجنبية. فالمفوضية الفرنسية كانت تعلق "الدستور" اللبناني، كما كانت تعلق "الدستور" الشامي ساعة تشاء. ولو كان للشعب اللبناني سيادة حقيقية لما حدث من ذلك ولما تجرأ ممثل سلطة أجنبية على القبض على ممثلي الشعب ودوس حقوقه السياسية بجزمته العسكرية.
7- القول "أن فرنسة ستسهر على هذا الاستقلال" يعني أن أمر هذا "الاستقلال" في يد فرنسة وليس في يد الشعب في لبنان فالشعوب التي يسهر غيرها على "استقلالها" هي شعوب غير مستقلة وجميع الشعوب الواقعة تحت "حماية" شعوب أخرى هي شعوب غير مستقلة ، بل مستعبدة. وهذه الحقيقة يعرفها جميع الأحرار. وكل شعب يتكلم باسمه ممثل سلطة أجنبية ويعلن مصيره هو شعب مستعبد باسم الوصاية والحماية "والسهر على استقلاله" وبمثل هذه الشعوذة التي تحقر المدارك الانسانية يظن ضحايا "حماية فرنسة لاستقلال لبنان" انهم يفهمون الشؤون الحقوقية والسياسية الانترنسيونية.
المضحك المبكي في السذج، الذين يقبلون الشعوذة السياسية ويضعون الشعب الذي ينتسبون اليه في مصاف الشعوب المنحطة التي لا تفهم الحقوق ولا السياسة، انهم ينكرون على ابناء لبنان والشعب السوري قاطبة طلب استقتاء اللبنانيين في مصيرهم. وهم لبساطتهم، يقولون "فلبنان والشعب اللبناني يرفضان بتاتاً هذه الفكرة". فهل يمكن معرفة ما يقبل الشعب اللبناني وما يرفضه بدون أخذ رأيه في استفتاء أو تصويت عام؟
قلنا ونكرر القول للمكابرين في الحق ان لبنان والشعب اللبناني ليسا ملكاً خاصاً لبعض اللبنانيين دون بعض ولبعض المقامات الاكليريكية كالبطريركية المارونية ولا لغيرها من المقامات الدينية كدار الافتاء او غيرها ولا يوجد في العلم السياسي وحقوق الشعوب هذه التعابير الصبيانية "اب وأبناء" فالشعب كله هو السيد المطلق على نفسه ووطنه. وما دام الشعب في لبنان لم يستفتَ في أمر انفصاله و"استقلاله" الموهوم فليس لأحد من أبناء لبنان أن يقول ان الشعب شاء هذه المهازل التي يجريها بإسمه الأجانب والمتواطئون مع الأجانب لمصالح غريبة عن مصلحة الشعب في لبنان.
الدخلاء على لبنان هم الذين يرفضون استفتاءه وينكرون على مواطنيهم حقوقهم المدنية والسياسية بدعوى مضحكة من "الأب والأبناء". جميع الدساتير والقوانين في العالم المتمدن تعترف للبالغين سن الرشد بحق تقرير مصيرهم بمطلق ارادتهم. ولا يجوز في هذا العصر، للأب ان يبيع ابنه أو بنته التي بلغت سن الرشد. ولا يمكن اباً اليوم اكراه ابنه أو بنته على اتخاذ زوج لا رغبة له أو لها فيه. أما انكار لبنان وعدم انكاره فمسألة غير مثارة ولا موضوعة على بساط البحث فكل من كان مسقط رأسه في جبل لبنان يفتخر في ذلك ولا ينكره. وسورية كلها تفاخر بجبالها اللبنانية وجمالها. وجبران خليل جبران الذي هو من نوابغ لبنان ومن أرز لبنان ومن قح الموارنة (او من اللبنانيين الأقحاح كما سمى الموارنة أحد نواب المجلس اللبناني) قال للمتلبننين المتواطئين مع الارادة الأجنبية على تفريق وحدة الشعب السوري: "لكم لبنانكم ولي لبناني".
فيا أيها المواطنون الكرام الذين تريدون الانفصال: اننا نحترم حقوقكم المدنية والسياسية في لبنان وفي سورية كلها، التي تخولكم ابداء رأيكم في مصير وطنكم أو مصير جزء منه. ولكن اذا تجاوزتم حدودكم، وتعديتم حقوقكم وجعلتم رأيكم مقام ارادة الشعب كله، ضاربين بحقوق مواطنيكم المدنية والسياسية عرض الحائط ومنكرين على الشعب حق ابداء ارادته العامة فنحن نصارحكم بأنكم على ضلال.
اننا ننكر عليكم والحق والواقع ينكران عليكم التكلم باسم لبنان والشعب اللبناني فلا لبنان ولا الشعب اللبناني خولكم حق التكلم بإسمه. واذا كان لبنان الأجنبي يحبذ دعواكم الباطلة فلبنان السوري الصميم ينبذها.
ايها المدّعون التكلم باسم لبنان والشعب اللبناني!
نضرع اليكم جاثين على ركبنا ومبتهلين الى قدرتكم الكلية أن تكتبوا بالهيرغليفية او المسمارية حين تكتبون عن كيفية اعلان ممثل سلطة أجنبية ارادة شعب تحتل بلاده احتلالاً عسكريا وعن حقوق الأبوة والبنوة وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية، لـئلا تجلبوا عار جهلكم على شعبكم كله!.
الزوبعة – العدد 52 – 15 سبتمبر 1942
|