إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

إلى وليم بحليس 4

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1942-07-20

إقرأ ايضاً


الحزب السوري القومي


مكتب الزعيم



رفيقي العزيز وليم بحليس،


منذ أيام، نحو عشرة، أجبتك على كتابك الذي تذكر فيه أمر فؤاد بعد تسلمه كتاب جبران مسوح. ثم تسلمت كتابك الأخير المؤرخ في 4 يونيو الحاضر وفيه نسخة كتاب كنت أرسلته الي ولمّ يصلني.


ان الكلمة التي صدرت في "الزوبعة" لا علاقة لها بالثقة. انها طريقة رأيتها مضمونة لابلاغك انقطاع رسائلك عني. فقد صرفت في الماضي اوقاتاً كثيرة في كتابة رسائل لم تصل اليك ولم يعد بامكاني الاستمرار على بذل مثل تلك الاوقات الضرورية لأمور أخرى على غير طائل. في ما يختص بأمر أمهات "الزوبعة" كتبت في رسالتي الماضية، وأزيد هنا ان التي عند جورج تصلح ويجب شراء جهاز آخر هنا ثمنه نيف وألفا فاس (ريالات) ارجنتينية. ويجب أيضاً ارسال جهازين كاملين من حروف جسم 36 و 28 للعنوانات الكبيرة. وجميع ذلك لا ينشىء مطبعة. فتبقى مسألة الآلات كاللينيتيف وآلة الطبع وتوابعها. وهاتان الآلتان هما أهم شيء وثمنهما غير قليل. فإذا كانت النفوس ضعيفة وملاحقة هذا الأمر تجري بهذا البطء فلا أقل من شراء الأمهات ثم أدرس مسألة الآلات فيما بعد. الآن سأتكلم كلاماً عاماً يفيدك في صدد ما ورد في نسخة كتابك السابق وحاجتي لوجودك أو لوجود معاون مقتدر سواك بقربي.


يظهر أن المثل القديم "عين لا ترى قلب لا يوجع" لا يزال ينطبق على عقليتنا الحاضرة في غالب الناس بدون اسثناء القوميين. فقد مرت اربع سنوات الا أشهراً قلائل على وجودي في اميركة ومثل هذا الوقت أو أقل عل انضمام عدد من "الشباب السوري" ولكن ماذا حدث من التقدم الفكري العملي في اوساط هؤلاء "الشباب"؟


ان أفكاراً جديدة كثيرة قد وصلت اليهم عن القضية القومية وعن المناقب الجديدة المطلوبة للنهضة ولكنهم بقوا جامدين في تفكيرهم العملي والحالة النفسية لا تزال سيئة جداً. هل يسأل واحدهم نفسه: كيف تسير الأمور وماذا يمكن ان أفعل في سبيل النهضة والحركة وماذا علينا مباشرته؟ كلا. كل واحد يكتفي بالاقتناع بأن الأمور يجب ان تسير بطريقة من الطرق من غير دخوله تحت مسؤولية ولا محاسبته في واجب.


هل يسأل هذا "الشباب السوري" كيف تسير اعمال مكتب الزعيم وما يحتاجه هذا المكتب وما يجب فعله في سبيل تنمية قوة الاذاعة؟ لا يكون بعيداً عن الحقيقة اذا قلت ان أكثر هذا "الشباب" الذي اليه فؤاد يجهل كل الجهل ويعمى كل العمى عن حالة الزعيم وعن الضرورات المطلوبة من كل واحد من افراده، على نسبة مقدرته وكفاءته واستعداده. هل يخطر في بال احد افراد "الشباب السوري" ان الزعيم يجاهد منذ عقد كامل من السنين جهاداً متواصلاً مضنياً ابتلى جسمه خلاله ابتلاء شديداً وصار يجب ان نلتفت كل الالتفات الى هذه الناحية الهامة ليبقى لنا الاشعاع الفكري والشعوري والقيادة الثابتة؟ او هل يخطر في باله التفكير في لوازم مكتب الزعيم ومقومات العمل الاذاعي وكيفية تجهيز واعداد ما يلزم لذلك؟ كلا. لا شيء من ذلك. ولكن يخطر في باله شيء كثير من الأفكار الفوضوية كالانتقاد والتعنت والسفسطة. يريد أن يعلن ما يعتقده لازماً وما لا يعتقده لازماً وما يراه صواباً وما يراه خطأ او غلطاً. ولكن لا أحد يريد أن ينتقد نفسه ويرى تقصيره في شعوره وتفكيره وواجباته.


تقول في نسخة كتابك المفقود "نشعر انه من الحسن ايضاً ان نتحدث عن البنيان الجديد القائم على اساس لا تدكه هستيرية القروي ولا بلاهة الحداد ولا سفالة وانحطاط ابي ماضي" وتستأنف فتقول "لكن اين هي هذه البراهين والحوادث والجماهير من الشباب الحي الناهض لا نقدمها للمهاجرين حتى نبعث فيهم الأمل بمستقبل امتهم. لماذا لا نعطيهم من صور الحياة السورية ما يحبب لهم الحياة السورية" ثم تضيف الى ما تقدم "من بامكانه ان يتحدث للسوريين عن نهضة سورية القومية ويذكر لهم الحوادث والأسماء اكثر من "الزوبعة"؟ الخ، وأنت الا يخطر في بالك اني افكر في هذه الأمور واني اذا كنت لا احققها في الحال فلأن هنالك أسباباً يتجاوز علمي بها علمك، انه يخطر لك ان تسأل نفسك، كيف يمكن جريدة صغيرة "كالزوبعة" تصدر مرتين في الشهر بصفحات صغيرة قليلة العدد ان تحارب الاعداء وتنشر الحركة القومية الاجتماعية وخططها وآمالها في وقت واحد وبقلم كاتب واحد تكاد تمزق نفسه تفتتات المتفتتين وسفسطات السفسطائيين؟ او كان يمكن ان تبحث "الزوبعة" ابحاثاً راسخة في جو هادىء ووسط آذان صاغية لو لم تكن قامت بحملتها التطهيرية على عدو بعد عدو وفئة من الاعداء بعد فئة؟ قد يقول غير العارفين: "ان الأمر قد طال على هذه الحملات" واني اقول ان المسألة ليست مسألة طول او قصر بقدر ما هي مسألة انتصار واندحار. والساحة واسعة ونحن صحيفة واحدة ضد عشرات، اذا لم يكن مئات الصحف. وكم مضى من الوقت على ختام "جنون الخلود"؟ وهل تظن ان الذين قرأوا هذا البحث قد فهموه كلهم وعرفوا كيف يقيسون الأدب والأدباء والشعر والشعراء والنشاء والمنشائين والصحافة والصحافيين؟ اتظن ان الذين سقط على مرأى منهم رشيد الخوري صاروا يدركون من تلقاء انفسهم سفالة ابي ماضي وسطحية ادبه وهو الذي كان عندهم وعند جميع الأدباء والمتأدبين "اعظم شاعر عصري في اللغة العربية" ام تظن أن "الرابطة القلمية" في نيويورك قد ذهبت بمجرد ظهور ابحاث "جنون الخلود"؟


ان الحرب السياسية غير الابحاث الأدبية ولها خطط نفسية واذاعية لا تخضع لخطط التفكير العمومي. ولو كنت خارج ميدان السياسة لما كان خطر لي ان اتناول جميع هؤلاء الأفراد بكل هذا التطويل، الا اذا تركت التفكير الانشائي للاهتمام بالنقد المفيد. وليس سراً اني اتمرمر واتململ من حاجتي الى النزول الى مستوى اولئك السخفاء لمناقشة سخافتهم. ولكني وجدت ذلك ضرورياً لحصول النتيجة التي توخيتها. وقد حصلت النتيجة ولكن المجموع واسع واذاعتنا ضعيفة وهنالك اوساط لا تزال مقفلة لاذاعتنا، لأننا لم نهتم بايصال صوتنا اليها او بايجاد الوسائل الفعالة لبلوغها والدخول فيها. وما الفائدة من كتابة بحث جليل لحفنة صغيرة من الناس في حين الحاح الحاجة لتحريك جماعات كبيرة بسرعة. وهنالك امر آخر يعود الى النقطة التي بدأت بها حديثي. انت قمت على ادارة جريدة وخبرت شيئاً من معاناة هذا الأمر. انسيت شكواك الي من اضطرارك الكتابة في ظروف حرجة ومن عدم حصول المساعدة المنتظرة وغير ذلك. ألا يخطر في بالك تقدير حراجة الظروف المجود انا فيها. الا تتصور اني انا كاتب "الزوبعة" الوحيد، ما عدا مقالة لجبران، واني أنا مديرها واني ناموس ادارتها فأدون اسماء المشتركين واحذف الذين يرجعون الجريدة وابحث عن اسماء مشتركين جدد. وانا آخذ المقالات من منزلي البعيد نصف ساعة عن مركز المدينة الى المطبعة. وأنا اصلح المسودات. وانا اكتب أسماء المشتركين على الآلة الكاتبة. وأنا أضبط حساب الورق وأجرة الراصف. وأنا آخذ الى البريد الرسائل والرزمة الخاصة بمشتركين جدد أو بأشخاص أرسل اليهم أشياء معينة. وأنا اطالع الصحف السورية والأجنبية وأقص ما يجب حفظه منها في سجلات مكتبي والخص أخبارها الهامة "للزوبعة".


ثم أنا أدير الحركة وحدي وهنالك عدد من المنفذيات والمديريات لا بد لي من مخابرتها وفي كل ادارة منها يوجد مشكل او أكثر يحتاج حلاً. فأنا اكتب جميع الكتب والقرارات وانسخ ما يجب نسخه منها بيدي. وأنا أحفظ الكتب الواردة، وأنا اقبل الأسماء الجديدة المنضمة وأقيدها. وأنا اهتم بالأسئلة والرسائل الواردة من طائفة المراسلين. وأنا آخذ الى البريد جميع مراسلات مكتبي. وانا أقابل هنا كل من شاء التعرف الي ومن يبغي الوقوف على أمر ومن يريد ان يفضي الي بشيء.


هل خطر في بالك او بال فؤاد التفكير في هذا الشأن وفي ما آل اليه جسمي بعد كل ما مر علي من المحن القاسية وهل يخطر لك ان تسأل: كيف يقدر هذا الرجل ان يحافظ، وهو في هذه الحالة، على شيء من قوة الذاكرة. وكيف يمكن أن ننتظر منه في كل عدد من "الزوبعة" بحثاً جديداً في فلسفة النهضة أو في خططها؟ ان هذا الجيل الكثير المفاسد العديم قوة التصور لا يعرف الا أن يطلب. فكلمة هات! هي دائماً في فمه. انه يشبه صبياً عديم التربية له في كل ساعة مطلوب جديد يضج ويصخب ليأتيه احد به. ان هذا الجيل يظنني آلة تشبه القرامفون حصلت له ليلهو بها وليغير عليها الأقراص والأنغام كما يريد او يرغب. فتارة هو يريد هذا النغم وطوراً يريد نغماً آخر والآلة يجب ان تدور والا حطمها ورماها الى الأرض. ويا ليت البقية تقف عند هذا الحد. فبعض افراد هذا الجيل يريدون نغماً وبعضهم يريد غيره والبعض الآخر يريد غير ذلك وصخبهم وجلبتهم لا تتركان فرصة لعمل هادىء وخطة منظمة. كل واحد منهم يريد استعمال الأمور على هواه.


وبعد فاني لم اقل كل ما يمكن قوله ولا جله. اتعرف اني بقيت مدة ولا ازال غير آمن استقراري المعاشي؟ اتدري انه خطر لي عدة مرات ان اترك الكتابة وأن انزوي مدة بقصد الحصول على بعض الاطمئنان وجمع شتات الافكار والتذكارات التي اصبحت متفرقة بلا رابطة؟


واذا كانت الحالة ستظل كما هي فماذا أتوقع؟ كل فرد على شيء من القوة المادية او الاستغناء المادي يظن انه يصير ذا فضل علي بانضمامه الى الحركة وانه علي مراعاة خاطره وتوقـّي احساساته لئلا يغضب وينسحب.هذه الحالة لا تختص بفرد معين فقد رأيتها هنا مكرراً. بأية ثقة يكتب كاتب في هذه الحالة للنهضة؟


أتعرف حكاية ذلك البدوي الذي منعه أبوه من قول الشعر فمرض لذلك واشتد مرضه حتى اشرف على التلف فجاءه أبوه يقول له أنه اجاز له قول الشعر فقال "حال المريض دون القريض"؟ ما اشبه هذه الحكاية بحكاية رجل وقف نفسه على انهاض شعبه فقام جيل شرير جاهل مبغض للعلم يأتيه كل يوم بأحجية ومعمى ليحلهما ويطلب منه كل ساعة امراً غريباً ويعذبه بأنواع العذاب ويجرحه الجراح الكثيرة ثم يقف فوق رأسه ويقول له "اذا كنت بالحق معلماُ وقائداً ومرشداً فأرشدنا الى الصلاح والفلاح واشرح لنا فلسفتك وأبِنْ لنا الكون الذي تخيله"!


واني أقول لك، يا رفيقي العزيز، لا تصغ كثيراً الى ما يطلبه الناس فمطاليبهم لا يحصيها عد. وكلما اتيتهم بشيء ألحّوا عليك بشيء آخر. اما فقد قمت في العشر سنوات التي مضت بأكثر كثيراً مما هو طبيعي القيام به. ووزعت قواي بلا شفقة ووجدت انه عندما قاربت التلف لم يكن حولي احد حتى اذا استعدت شيئاَ قليلا جداً من قوتي الماضية، وهو القليل الذي اشتغل به الآن، عدت اسمع تلك النغمة الكريهة: هات! هات!


اني اعرف واجبي وواجب الحركة القومية الاجتماعية واعرف جيداً طبيعة هذا الجيل. اني سأفعل دائماً ما أراه الأفضل والأوفق. فإذا خطر لي أن أعود فأكتب خمسين مقالة جديدة عن أبي ماضي وخمسين مقالة اخرى عن الحداد او الخوري فإني فاعل، لأن خواطري ليست خواطر هوس ولا لجاجة رعونة بل خواطر درس وتأمل ومعرفة.. وان الذين بحكمة يبغون الاستزادة من تعليمي يجب عليهم ان يحركوا حكمتهم بالاهتمام برفع الاثقال العملية وبمساعدتي بايجاد الوسائل اللازمة لايصال تعليمي الى أوسع الدوائر.


لو فكر هؤلاء بتدبير نفقة ناموس وكاتب في مكتبي وتأمين مطبعة كاملة لجريدة النهضة واجور كتاب وعمال لكان ذلك أفضل من ملايين النصائح الفجة التي يمكن أن يسدوها إلي. ان إبداء الرأي واجب في محله ومنكر في غير محله وما أكثر الذين يبدون آراء في غير محلها.


ان القضية ليست قضيتي وحدي بل قضية الجميع. فليس من العدل ان أكون الوحيد الذي ينتظر منه ان يعمل دائماً بينما الآخرون يترددون عند كل شك غير مبرر ويتزعزعون امام كل خشية. كل واحد منهم يطلب سلامته قبل سلامة القضية، انه يريدني ان أتدبر أنا سلامة القضية وحدي وأن أكون مسؤولاً تجاهه عن كل حركة من حركاتي وسكنة من سكناتي.


لا أزيد على ما تقدم. ففي هذا البحث يكتب كتاب طويل. ولم أكتب ما كتبت لألومك أنت ولا لألوم أحداً. وانما هي لمحة من الداخل لعلها تفيد.



اتمنى أن تكون وعائلتك بخير. سلامي القومي لك وللرفقاء العاملين.



ولتحي سورية


في 20 يوليو 1942


التوقيع


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024