إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الرد على البطريرك عريضة:‏ مسائل السيَاسة القومية جزء 3

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1937-12-18

إقرأ ايضاً


السلطة الروحية والسلطة الزمنية

نعتقد، من العناية الشديدة التي تناول بها الحزب السوري القومي الاجتماعي، إن غبطته يوجه الكلام ‏إلى الحزب السورية القومي الاجتماعي خصيصاً حين يقول: "اعترض علينا البعض، إننا، ونحن ‏الرئيس الروحي، نتدخل بالأمور الزمنية" فنشكر غبطته بهذا الاعتراض الذي دفعه إلى جوابه ‏وفسح لنا المجال للجواب، بدورنا عل جواب غبطته وإيضاح ما لابد من إيضاحه بهذا الصدد. ‏

إليك أيها القارئ العزيز جواب غبطته: "إن الأمور الروحية، وإن كانت غايتها خلاص النفوس ‏بحفظ الإيمان، والشرائع الإلهية، فلها مساس عظيم بالجسد، لأن الإنسان ليس هو روحاً بسيطاً ‏كالملاك ولا جسداً مستقلاً، بل هو مزيج من الاثنين، والجسد، إذ هو الجزء الأدنى، يجب أن يخضع ‏للنفس. لأنها الجزء الأشرف من الإنسان وهو ليس إلا آلة تستعملها النفس لأغراضها. والأعمال ‏الروحية إنما تتم بواسطة الجسد، ولما كان أساس الدين المسيحي قائماً بالمحبة لله تعالى وللقريب ‏توجب على الرئيس الروحي أن يعاون الشعب بكل الأمور، روحية كانت أم زمنية، التي تعود لخيره ‏الروحي أو الزمني.‏

يقسم جواب غبطته إلى قسمين: قسم من شؤون اللاهوت البحت وقسم من شؤون نظر اللاهوتيين في ‏الأوضاع الزمنية. فالقسم الأول هو ما تعلق بالروح والجسد والقسم الثاني هو ما تعلق بواجب ‏الرئيس الروحي تجاه الأحوال الزمنية.‏

لا نريد أن ندخل هنا في أي بحث لاهوتي صرف. باعتبار أن الروح من عند الله وأن الجسد من ‏التراب وأن الاثنين مستقلان الواحد عن الآخر في الأصل، ولا في مناقشة علمية لهذه الاعتبارات ‏اللاهوتية، بل نريد أن نقبل، جدلاً، هذا الترتيب اللاهوتي لعلاقة الروح بالجسد. ثم نناقش النظرية ‏اللاهوتية بعد حصول المزيد من الروح والجسد وحصول الإنسان الذي لا يكون كيانه الجسماني ‏سوى آلة تستعملها النفس لأغراضها، إذ "الأعمال الروحية إنما تتم بواسطة الجسد".‏

كل إنسان، إذن "يولد مستكملاً الشرطين العلوي والسفلي: الروح والجسد" وبحصول المزيج يصبح ‏الإنسان تاماً، روحاً وجسداً، ونصرف النظر هنا عن شروح علم النفس وعن التحليل النفسي وعن ‏التفاعل بين النفس والجسد أو بين ما هو سيكولوجي وما هو فيزيولوجي ونجيب على نظرية غبطة ‏البطريرك اللاهوتية من كلامه عينه فنقول أنه لما كان "مساس الأمور الروحية العظيم" مستمداً من ‏علاقة الروح بالجسد ولما كان الإنسان ذا روح بعينها وذا جسد بعينه فكل إنسان له روح تهتم ‏بتصريف شؤون جسدها. ‏

ولما كانت غاية الأمور الروحية "خلاص النفوس بحفظ الإيمان والشرائع الإلهية" مهما كان ‏مساسها بالجسد عظيماً يجب أن نخرج من دائرة الروح إلى دائرة الجسد فتثقيف النفوس في "حفظ ‏الإيمان والشرائع الإلهية" هو أمر ديني من أمور الروح يجب أن لا يتعدى هذا الحد إلى الأجساد ‏لأن إن تعداها أبطل ذاتية الروح الخاصة واستقلال الفرد وحريته في تصريف شؤون جسده وفاقاً ‏‏"للإيمان والشرائع الإلهية". فواجب الرئيس الروحي أن يقتصر على تعليم الإنسان أموره الروحية ‏حتى إذا أكمل تعليمه "الإيمان والشرائع الإلهية" أصبح قادراً من تلقاء نفسه، على السير في أحكام ‏الإيمان والشرائع الإلهية مع الاحتفاظ باستقلاله عن رئيسه الروحي في الشؤون الزمنية التي تتطلب ‏معرفة الزمنيات المعقدة من علوم وفنون اختصاصية تحتاج إلى ثقافة أخرى مبنية على العلوم ‏والفنون الزمنية، لا يمكن أن تغني عنها "الشرائع الإلهية" التي غايتها "خلاص النفوس" لكي لا ‏تذهب بعد الموت إلى جهنم. فالعلم الروحي يمكنه أن يعلم "الشرائع الإلهية ويرشد إلى الصلاح ‏النفسي وفاقاً لهذه الشرائع" ولكنه هو نفسه مختص بالروحيات لا يمكنه أن يعلم العلوم المادية وفن ‏الإحصائيات وعلوم الطب والكيمياء والهندسة والاقتصاد وما تنطوي عليه من علوم ومسائل ‏فرعية لأن هذه الأمور ليست موجودة في "الشرائع الإلهية" الثابتة وهي أمور تتطور وترتقي ‏بالاكتشافات والاختراعات بينما تظل "الشرائع الإلهية" ثابتة جامدة بطبيعة النقل. ‏

نقول أن واجب الرئيس الروحي ألا يتعدى دائرة الروح إلى دائرة الجسد لئلا يقع فيما يوجبه هذا ‏التعدي من تطبيق أحكام الدائرة الجسدية عليه هو نفسه فيصبح "كواحد من الناس"، لأنه متى خرج ‏إنسان من الروحيات من دائرة ‏الروحيات إلى دائرة الزمنيات أصبح المقياس الذي يقاس به: مبلغ معرفته وخبرته العلوم والأحوال ‏الزمنية، لا مبلغ حفظه "الإيمان والشرائع الإلهية".‏

أما الاستنتاج من علاقة الروح بالجسد اللاهوتية إنه بما أن الجسد خاضع للروح فالأجساد يجب أن ‏تخضع لسلطة زمنية للرئيس الروحي فهو استنتاج لو حصل لكان ضلالاً بعيداً عن شؤون الروح ‏والجسد معاً، لأنه لا يعني خضوع الجسد للروح فقط، بل يعني خضوع كل الأجساد لروح واحدة ‏تعطل مواهب الأرواح الأخرى وتنقض غرض الروح المرسلة من عند الله، فإذا كانت الروح ‏مسؤولة عن الخضوع "للإيمان والشرائع الإلهية" فهي ليست مسؤولة عن ترك شؤون جسدها ‏الزمنية لروح واحدة هي روح الرئيس الروحي.‏

الروح نفسها غير مسؤولة عن الخضوع للرئيس الروحي إذ هي مسؤولة عن "حفظ الإيمان ‏والشرائع الإلهية" فقط، فكم بالحري الجسد الذي هو "آلة تستعملها النفس".‏

وأما قول غبطته "ولما كان أساس الدين المسيحي قائماً بالمحبة لله تعالى وللقريب توجب على ‏الرئيس الروحي أن يعاون الشعب بكل الأمور التي تعود لخيره الروحي أو الزمني، "روحية كانت ‏أو زمنية" فينقصه شرط بقاء المعاونة ضمن دائرة اختصاص الرئيس الروحي غايتها "حفظ الإيمان ‏والشرائع الإلهية" فلا تتعدى إلى إدارة الدولة وسياستها وتصريف الشؤون الزمنية، التي تحتاج ‏أموراً أخرى غير "حفظ الإيمان والشرائع الإلهية".‏

وأما التشبث بالسلطة الزمنية فكلام مبني على التقاليد الكنسية لا على حاجة الحياة ومطالب الحياة ‏الزمنية.‏

.... للبحث صلة،

نشر هذا البحث التحليلي في جريدة "النهضة" الصادرة في بيروت، وذلك ‏ابتداء من العدد 58 تاريخ 18 كانون الأول سنة ‏‏1937‏


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024