الرأسمال والشيوعية
وسط الفوضى والبلبلة اللتين أثارتهما النهضة الرجعية أخذت قوتان مضادتان تمدان حبائلهما أمام الأمة الحائرة المشعثة النظام لتوقعاها. هاتان القوتان هما الرأسمال والشيوعية.
لقد كان الرأسمال أسبق إلى التكون في سورية، وكان بعد تكونه أكثر ما يكون قناعة بالحال الراهنة وأشد ما يكون خوفاً من انقلابها. فلم يتحرك الرأسماليون السوريون لنهضة أو لأمر، بل تركوا الأمور تجري في أعنتها وعملوا على تكييف أنفسهم للحال الراهنة واستثمارها مدفوعين بعامل الأنانية العمياء والمصالح المستعجلة.
أما الرأسمال الأجنبي فهو قد وجد في حالة الفوضى والتفسخ القومي مقاتل الفريسة التي يطلبها، فسارع إلى إنشاب مخالبه فيها. وليس يحسب الرأسمال الوطني شيئاً بالنسبة إلى الرأسمال الأجنبي الذي استولى على أهم مرافق حياة الأمة وأمسكها من خناقها ووضع لعبوديتها سلاسل وقيوداً وأغلالاً. وتواطأ الرأسمال الأجنبي مع الرأسمال الوطني والنفعية والأنانية مع ذوي المصلحة في الحكم وسارت الامتيازات وفساد الادارة والانانية الجاهلة يداً بيد وبيعت الأمة بالمزايدة السرية. وجرت اذاعات النهضة "الوطنية" تحث الشعب على تأييد الصناعة الوطنية والإقبال على مصنوعاتها فكانت "الوطنية" وسيلة من وسائل الرأسمال "الوطني" المساهم في "النهضة الوطنية" لاستثمار عواطف الشعب واستغلال وطنيته وقوميته.
وجاءت الشيوعية مع الجوالي الأجنبية تزيد الطين بلة، وقد جلبت معها النظرة الأفقية في المسائل الاجتماعية وهي النظرة اللاقومية القائلة بحرب الطبقات في جبهة عامة من العمال التي لا ترى وطنا ولا تعرف قومية ولا تشعر بعصبية غير عصبية الطبقة. ولم تأت الشيوعية سورية بغير الحركة السياسية التي تديرها موسكو. فإن النظريات والمبادئ الشيوعية نفسها لا أثر لها في البلاد سوى النشرات الحاثة العمال على الثورة وعلى محاربة الفاشيستية الألمانية التي تحولت كل جهود موسكو والشيوعية الانترناسيونية إلى مهاجمتها بعد ظهور التضارب في المصالح الروسية والألمانية.
وإذا كان الرأسمال الوطني قد أصبح صنيعة الرأسمال الأجنبي، فإن الشيوعية الوطنية ليست سوى صنيعة الشيوعية الانترنسيونية. ولعل أعظم ما تطمح إليه الشيوعية العملية تأسيس حكم الشيوعية السياسية ونقل امتيازات الاقطاعيين إلى الطبقة الشيوعية الحاكمة.
ومع كل مظاهر التنافر بين الرأسمالية والشيوعية فالمذهبان يتفقان في اللاقومية. وتختلف لاقومية الواحد عن الآخر نوعاً. فعصبية الرأسمالي في رأسماله وعصبية الشيوعي في طبقته. ولسنا هنا في مقام تشريح النظرة الشيوعية الخطرة على الأمم في عالم أو عصر أظهر مظاهره حياة الأمم وتنازعها الحياة والتفوق ولا في بحث المذهب الرأسمالي وخطره على معنوية الأمة واقتصاد الدولة وسياستها. ولكننا نكتفي بتسجيل سوء أثرهما في حياة الأمة السورية وحيلولتهما دون استيقاظ الوجدان القومي وإعادة تنظيم المجتمع السوري تنظيماً يعطيه التجانس والحيوية الضروريين لتقدمه ورفع مستوى حياته.
...
يتبع
نشر هذا المقال في مجلة "الجمهور" تاريخ 12 تموز 1937.
|