بعد ظهور أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي وحصول الاختبارات الواسعة لأهمية عقيدته وتعاليمه القومية الاجتماعية التي تفتح عهدا وتاريخا جديدين وتجلو نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة، ووضوع عظم المهمة التي يقوم بها هذا الحزب قال لي الأمين جورج عبد المسيح، وهو من رجال المجلس الأعلى ومن أشد رجال الحزب إخلاصا وإقداما ومن خطباء الحركة القومية الاجتماعية وكتابِّها وإدارييها:
"لو كنت قوميا قبل ابتدائي دروسي النهائية، إذن لكنت استفدت من دروسي أكثر كثيرا مما استفدت، إذ كنت عرفت كيف يجب أن أدرس - وأظن أني أعبر عن رأي غيري أيضا".
الأمين عبد المسيح كان طالبا في الدائرة الاقتصادية في الجامعة الأميركانية. وكان في السنة النهائية حين قبل فكرة القومية الاجتماعية. ولم يستوعب أهميتها وفهم خطرها وبعد مراميها وقضاياها إلا بعد أن اجتازت هذه الفكرة مرحلة واختمرت بالاختبار والشروح ومعالجة المسائل التي اعترضت نشوءها ونموها. وكان لدروسه المدرسية نصيب في شغله عن درس موضوع التعاليم الجديدة، فأنهى دروسه على أساس النظرة الفردية اللاقومية الرامية إلى النجاح الفردي البحت بلا مبالاة بشيء آخر. ولكنه بعد أن سار شوطا في الحركة القومية الاجتماعية أخذ يستعيد بعض النظرات ويدقق فيها وصار يفهمها فهما جديداً.
لم يكن الأمين عبد المسيح وحيدا في هذا الشعور. فالأمين فخري معلوف ترك الاشتغال في بواطن النجوم بعد أن صحت به: "اتشتغل بفحص بواطن النجوم وأنت لا تدري لمن تكون الأرض التي تحت قدميك غدا؟؟". وبعد أن استوعب الفكرة القومية الاجتماعية قال لي مرة "الآن صرنا نفهم مقالاتك في المجلة" وهي المقالات التي كتبتها لإعداد، "المجلة" التي استأنفت إصدارها في بيروت سنة 1933 ولم يصدر منها سوى أربعة أعداد، إذ اضطررت لإيقافها من أجل صرف كل عنايتي إلى تنظيم الحركة القومية التي كانت تحتاج إلى إنشاء وتأسيس كل أمر من أمورها، إذ لم يكن قبلها شيء إداري أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو دستوري أو مناقبي يصح اعتماده لنوع هذه الحركة الجديدة.
مثل قولي الأمين عبد المسيح والأمين معلوف سمعت من غيرهما. والأمين فخري معلوف غيَّر اتجاه دروسه فدرس بعض الاقتصاديات والسياسة وهو يعلم في الجامعة ثم انتقل إلى الفلسفة فتخصص فيها وقد عرف على ضوء النهضة القومية الاجتماعية، ما يدرس وكيف يدرس (من المؤسف أن يكون حدث لفخري معلوف مؤخرا انحراف نفسي ظاهر نحو القضايا الغيبية واللاهوتية) والذين أدركوا خطورة هذه النهضة وشعروا بعظم حقيقتها وهم بعد في بدء دروسهم النهائية أو قبل بلوغها ظهرت فاعلية مبادئ النهضة في دراستهم. وجميع هؤلاء والذين صقلت التعاليم القومية الاجتماعية ثقافتهم وجلت وعيهم وأيقظت مواهبهم هم الآن قوى روحية كبيرة في هذه الحركة الباعثة أمة عظيمة من مرقدها.
في اواساط سنة 1935، قبل اعتقالي ومعاوني في إدارة الحركة السورية القومية الاجتماعية ببضعة أشهر، انضم إلى هذه الحركة شاعر كان اسمه قد ابتدأ يدور على الألسنة في أوساط سورية الأدبية وخصوصا في لبنان. هو سعيد عقل ناظم ملحمة" بنت يفتاح". وقعت في يدي نسخة من هذه الرواية الشعرية فقرأت بضعة مقاطع منها فأحسست فيها شاعرية ممتازة جديرة بتناول قضايا الحياة والنفس. ولكنني لم أطق قراءتها كلها لأني وجدتها تخدم موضوعا غريبا عن المواضيع السورية، مختصا باليهود أعداء سورية. رأيت موهبة شاعر سوري جدير بالتعبير عن النفس السورية، ولكنها موهبة خارجة عن المواضيع السورية وعن خطط النفس السورية. وهي تخدم اتجاهات ومثلا في انتصارها انكسار لسورية ومثلها العليا ومطماحها وقواها. ومع كل الشاعرية الجيدة الظاهرة في الملحمة لم أجد فيها ما يمكن أن يفتح للأدب السوري مدخلا جديدا وأن يحدث فيه تغييرا أو تجديدا، على الأقل التغيير أو التجديد المنتظر أن يجعل سورية في بمصاف الأمم التي لها أدب حي جدير بالبقاء وباحتلال مركز عالي.
رأيت في"بنت يفتاح" مظهرا من مظاهر"أدب الكتب" الذي عرضت له في مقال نشرته في "المجلة" في بيروت باسم مستعار بعنوان "أدب الكتب وأدب الحياة" وقصدت أن ألفت فيه النظر إلى ما نحتاج إليه هو أدب الحياة"، أي الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تطورنا ويعبر عن مثلنا العليا وأمانينا المستخرجة من طبيعة شعبنا ومزاجه وتاريخه وكيانه النفسي ومقومات حياته وهي من الأمور التي شغلت أكبر قسم من تفكيري في البعث القومي وأسبابه، ورأيت أن تركيز الأدب عليها غير ممكن إلا بالاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة تجسم لنا مثلنا العليا وتسمو بها وتصور لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله وقضاياه الكبرى المادية - الروحية من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية. وقد عبرت عن هذا الرأي، بطريقة أخرى، في ختام شرح مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي بقولي: "أن غاية الحزب السوري القومي هي فكرة شاملة تتناول الحياة القومية من أساسها ومن جميع وجوهها. فهي تحيط بالمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال وإنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تحت ذلك تأسيس عقلية أخلاقية جديدة ووضع أساس مناقبي جديد". بهذه النظرة رأيت إمكان إنشاء أدب جديد فيه كل عوامل التجديد ودوافع البعث. فالأدب الذي يخدم هذه الغاية أو أية غاية مماثلة لها هو "أدب الحياة" الذي عنيته. هو الأدب الذي يكشف عن عظمة مطامح نفسية هامة وسمو مراميها. هو الأدب الذي مهمته أن يكون "منارة للجماعات" وليس "مرآة لها". إنه أدب النوابغ والعباقرة الذين إذا فات بعضهم أن يكونوا مؤسسين للفلسفة والنظرة إلى الحياة الجديدتين فلا يفوتهم إدراك المثال الأعلى الذي تشتملان عليه والنفسية الجديدة التي تقتضيانها فيحملون النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن ويقيمون بها أدبا جميلا خالدا لأنه يحمل عوامل حياة جديدة بنظرتها وفلسفتها ورغباتها فيكون بذلك النهوض الأدبي المساوي للنهوض السياسي المبني بدوره على وجود النظرة الفلسفية الجديدة في الحياة الإنسانية وعواملها وأغراضها الأخيرة.
لم تكن "بنت يفتاح" تنطق على مرمى التجدد الروحي في سورية وعلى ما يرجى من الأدب الجديد الذي كانت سورية تتوق إليه توقا داخليا، لأنها كانت بعيدة عن مواضيع الحياة السورية وغير متصلة بنظرة فلسفية يمكنها أن تستغرق أمواج النفس السورية. فلم يستهوني موضوعها. وصور الجمال التي فيها بقيت غريبة وجامدة، مع أنها صور إحساس سوري ضمن حوادث موضوع غريب معاكس لاتجاه الشعور السوري، فرأيت أن ألفت نظر الشاعر إلى مطاليب النهضة السورية في الأدب فانتهزت فرصة زيارة قمت بها لمنفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي للبقاع الشمالي في زحلة، بعد خروجي من السجن للمرة الثانية سنة 1936، لتنفيذ عزيمتي، كانت الدعاوات المفسدة قد لعبت دورا هاما في مديرية زحلة، في أثناء غيابي الطويل في السجن مرتين متواليتين مع فترة قصيرة بينهما. وكانت الإذاعة الشيوعية قد أخذت تعبث ببعض الرفقاء ومنهم سعيد عقل الذي وجدته شبه مقتنع بأنه لا حاجة لنهضة قومية اجتماعية في سورية، إذا العالم كما قال له بعض الشيوعيين، على أبواب صراع بين الشيوعية والرأسمالية وأيهما انتصر قضى على كل أمل لسورية بتحقيق بعثها. فأوضحت للمتزعزعين مقدار الخطر على مجتمعهم وعلى أنفسهم من تقلبهم في العقائد تقلب الأوراق تلعب بها الريح. وفي نهاية حديثي إليهم وجهت خطابي إلى سعيد عقل خصيصا ومدحت شاعريته الممتازة ولمته لعدم اهتمامه بالمواضيع التي هي من صميم الشعب السوري وتاريخه. وسألته هل لم يجد في تاريخ سورية من روائع المظاهر والمكنونات النفسية التاريخية ما يستهويه لاستخراج كنوزها واستئناف مجرى خططها السامية؟ فلم يحر جوابا فأشرت عليه بقراءة كيفية بناء قرطاجة العظيمة وتحويلها إلى قاعدة امبراطوية فسيحة الأرجاء شديدة السطوة وحوادث تاريخها الموقظة الشعور والمنبهة الفكر، أو قراءة شيء من أي دور من أدوار تاريخ سورية القديم فيتمكن، بفضل اتصاله بالنظرة السورية القومية الاجتماعية، من ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي واستخراج المثل العليا الفرعية والتفصيلية الجوهرية في الأخلاق والمناقب وإبراز أجمل المظاهر النفسية وأسمى المواقف المناقبية حسب الإحساس والتصور الملازمين لخصائص النفسية السورية. تركت هذا المعنى في ذهن سعيد عقل وخرجت من المكان غير منتظر جوابا.
بعد سجني المرة الثالثة وفي أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938، أوصل إلي الأمين فخري معلوف نبأ جعلني أشعر بموجة حرارة تجري في جسمي كله، قال لي الأمين معلوف أن سعيد عقل يشتغل في قصيدة أو ملحمة عنوانها "قدموس" السوري التاريخي الذي علم اليونان الأحرف الهجائية والكتابة وله قصص بطولة أسطورية جميلة، وأنه قد أنجز قسما منها اسمعه بعض مقاطعه وأنه يود أن يجتمع بي ليسمعني ما قد نظم. لم يمكني دور الجهاد العنيف الذي كنت فيه من تحقيق رغبة الرفيق سعيد عقل ولكني كنت شعرت برغبة شديدة في الالتقاء به ليقرأ في ناظري تقديري العظيم وشكري وإني آسف، بعد وقوفي على رواية "قدموس" من نظم سعيد عقل لأني لم أجد فيها ما كنت أتوقعه. فقد حاول المؤلف أن يصبغ الحقائق التاريخية والأساطير التقليدية بصبغة محلية ضيقة فأساء إلى الأساطير وإلى الواقع التاريخي.
سردت هذه الحوادث كما حدثت، مفضلا أخذ المثل من الحاضر ومن شؤون تاريخ نهضتنا التي في مقدور كل مؤرخ ومحقق تمحيصها وسؤال أفرادها الذين هم أحياء وفي فتوة الحياة، ليسهل إدراك نظريتي في كيفية نشوء أدب جديد حي بنشوء نظرة فلسفية اجتماعية جديدة صدرت عنها حركة سياسة واسعة تناولت حياة امة بأسرها وامتد تأثيرها إلى الأمم المجاورة وامتزجت أنغام موسيقاها الخاصة بالأنغام الخاصة الصادرة عن أمم أخرى تشترك في الارتقاء النفسي على ألحان المجد المكتسب بانتصار الأفضل والنبل والأعز على الأسوأ والأرذل والأذل، ولفهم ضرورة النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن للتجديد الأدبي أو الفني.
ويصعب علي كثيرا أن أتصور أن مجرد قراءة تواريخ قديمة والاطلاع في الأدب العربي القديم ودرس الأدب الانترنسيوني الحديث يكفي لإيجاد نهضة أدبية فنية أصلية جديدة في سورية ومصر أو في أية أمة من أمم العالم، على وجه القياس. كل ذلك يحتاج إلى الحافز الروحي المستمد من فكرة أو عقيدة فلسفية جديدة في الحياة وقضاياها. وبدون هذا الحافز الروحي، الذي هو شيء حقيقي، لا وهمي، لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية أو استعارية باهتة لا نضارة لها ولا رونق ولا شخصية. فلا هو شيء جديد من الوجهة النفسية يطبع خصائصه على الحقب والأجيال ولا هو شيء قديم أصلي محتفظ بخطوط شخصية صحيحة تظهر قوتها في ملامحها الصريحة، التي لا يتمالك الناظر إليها من الشعور بحقيقتها والإعجاب بمقدرتها على البقاء وبجاذبية مزاياها الأصلية الخاصة.
لو كان الحافز الروحي المستمد من فلسفة العقيدة السورية القومية الاجتماعية اتصل بجميع رجال العلم والأدب الذين انضموا إلى هذه العقيدة، قبيل ابتداء دروسهم الشبه اختصاصية لما كانت الدروس ظلت هياكل عارية، ميتة لا حياة ولا حراك بها، حتى جاءت النهضة القومية الاجتماعية بمبادئها وصيَّرت العلوم الميتة علوما حية فاكتست العظام لحما ونبضت عروقها بدم الحياة الحار. وبدون الحافز الروحي الواعي لا تفيد كثيرا قراءة شكسبير وغوته ولا العودة إلى سفر اشعيا ولا زيادة العلم ولا التعمق في الأدب القديم.
إن العراك السياسي العنيف الذي اضطرت النهضة السورية القومية الاجتماعية للدخول فيه في جهتين داخلية وخارجية، قبل اكتمال نموها الطبيعي وقوتها، حال دون حصول نتاج أدبي كبير، واسع، شامل. ولكن الحافز الروحي الذي ولدته هذه النهضة الحقيقية قد حرك عوامل الحياة والارتقاء في جماعات كثيرة وأيقظ وجدان ألوف الأحداث والطلبة في طول البلاد وعرضها. والعقيدة آخذة في الاختمار، والفكر قد ابتدأ يتبلور وسيجيء دور الإنتاج الأدبي والفني الواسع، الذي ينهض بالعصر الذي ابتدأ تاركا في الحضيض العصر الذي أخذته حشرجة النزع (وقد جاء بالفعل هذا الدور وقد بدت طلائعه في عدة مؤلفات ذات قيمة).
"الزوبعة"، العدد 54، في15 أكتوبر 1942
|